المصائد يوم الجمعة فوقع فيها الحيتان، ثم أخذوها يوم الأحد، وغالطوا أنفسهم وظنوا أن ذلك [يخلصهم من اللائمة] فلم يخلصوا ولم يعذروا، ولم يعد ذلك منهم كياسة وتلطفا في حصول المقصود، بل عد منهم مكرا قوبلوا بمثله {اِسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً}(٤٣)[فاطر: ٤٣] فمسخوا قردة؛ لأنهم مسخوا حكم الله فأحالوه عن صورته بحيلتهم فأحال الله-عز وجل-صورهم بحوله.
ويحتج بهذا من منع الحيل في أحكام الشرع، وهو مالك وأحمد ومن تابعهما، خلافا للباقين في إجازتها، كالمخالعة والتحليل والمعاملة الربوية، ونحوها، ولعلهم رأوا أن المنع من مثل ذلك تضييق في شرع من قبلنا من قبيل الآصار والأغلال التي كانت عليهم، واستباحته لنا من باب الرخصة والتوسعة علينا؛ لأن آصارهم وأغلالهم رفعت عنا ببركة نبينا صلّى الله عليه وسلّم كما سبق في هذه الصورة قريبا، ولعل الخلاف مبني على مسألة شرع من قبلنا شرع لنا.
وأيضا العقود لها صور ومعان فاعتبار صورة العقد ومعناه كالعزيمة كما في النكاح والبيع المجمع عليهما، واعتبار صورته فقط كالرخصة كما في التحليل وبيع المعاملة، ونظيره من العقليات الحد التام من الجنس والفصل جميعا، والفصل وحده حد ناقص، ولأن الصورة أمارة يدور الحكم عليها.
ولما قيل لهم: الحيلة قنطرة الحرام، قالوا: فقد حصل مقصودنا؛ لأن القنطرة إنما وضعت لتمنع من الوقوع في الماء فالحيلة تخلصنا من الحرام.
واعلم أنهم غلطوا في هذا الفهم أو غالطوا؛ لأن أولئك إنما أرادوا أن الحيلة قنطرة إلى الحرام: موصلة إليه لا أنها قنطرة عليه مخلصة منه، وفي هذه المسألة بحث طويل هذا حاصله، وتعظيم الشعائر والحرمات في طرف من حرّم الحيل المخيلات.
{وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}(١٦٤)[الأعراف: ١٦٤] تدل على وجوب إنكار المنكر على من أصر عليه وعلم أنه لا يزدجر بشرط أمن المفسدة الراجحة؛ وتفصيله أن الإنكار إن خلا عن مفسدة أصلا وجب، وإن استلزم مفسدة/ [١٩٩/ل] راجحة لم يجب، وإن تضمن مفسدة مساوية لمصلحة احتمل الخلاف والتخيير والأولى الترك؛ لأن تحريك الساكن يخشى منه التفاقم.