المازري: وعندي أن النظر يقتضي فيما قاله تفصيلاً، فإن كان الغالب في الديون الإشهاد عليها وترك ذلك نادر، وقال المحال حين جحود المحال عليه: إنما لم أشهد ليقيني بأن المحيل قد كان أشهد عليه على ما تقتضيه العادة، فلما كتمني أنه لم يشهد عليه صار ذلك كالتغرير منه فوجب لي الرجوع عليه، كما لو علم بفقر المحال عليه فكتمه، وأما إطلاقه القول بأن الحوالة إذا كانت على غائب أن يرجع فصحيح، بشرط أن يكون المحال لم يصدق المحيل في كونه يستحق ديناً على الغائب، وأما لو صدقه في ذلك وقبل الحوالة وهو يعلم ألا بينة على الغائب، فهذا مما ينظر فيه.
وقد اختلف المذهب الاختلاف المشهور في رجل أتى لمن عنده وديعة لإنسان فقال: أرسلني من أودعكها لإقباضها، فصدقه فيما ذكر ودفعها له، ثم قدم صاحب الوديعة وأنكر الإرسال، وحكم على دافعها بغرامتها؛ هل له أن يستردها ممن قبضها ويكون إنما صدقه بشرط أن يأتي صاحب الوديعة ويصدقه فيسترد منه ما أعطاه، أو يكون تصديقه له يمنع من الرجوع على الرسول لاعتقاده أن صاحب الوديعة ظلمه في طلبه بالغرامة وقد أخذها منه؟ وهذا يلاحظ ما نحن فيه من اعتبار كون المحال إنما صدق المحيل بشرط أن يأتي الغائب فيقر بالدين أو صدقه على الإطلاق، واعتقد أنه لم يكذب. انتهى.
ويقع في بعض النسخ عوض (جحد)(حجر) من الحجر، لكن الظاهر هي النسخة الأولى؛ لأنه يستغني عن الحجر بالفلس، ونقل المازري وغير واحد أنه لا يلزم المحال عند ذلك الكشف عن ذمة المحال عليه هل هو غني أو فقير، بخلاف شراء الدين فإنه لا يجوز إلا بعد أن يكون من عليه الدين حاضراً مقراً يعرف غناه من عدمه، وفرق المازري بينهما بأن الدين المشترى يختلف مقدار عوضه باختلاف حال المديان من فقير أو غني، والمبيع لا يصح أن يكون مجهولاً فإذا لم يعلم حال المديان صار مشترياً بالمجهول، والحوالة ليست ببيع على أحد الطريقين عندنا؛ بل طريقها المعروف.