للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الإلباس، وليس إدخال الإلباس في الكلام من الحكمة والصواب. وواضع اللغة- عز وجل- حكيم عليم. وإنما اللغة موضوعة للإبانة عن المعاني، فلو جاز وضع لفظ واحد، للدلالة على معنيين مختلفين، أو أحدهما ضد للآخر، لما كان في ذلك إبانة، بل كان تعمية وتغطية. ولكن قد يجيء الشيء النادر من هذا لعلل؛ كما يجيء فعل وأفعل، فيتوهم من لا يعرف العلل، أنهما لمعنيين مختلفين، وإن اتفق اللفظان. فالسماع في ذلك صحيح عن العرب، والتأويل عليهم خطأ، وإنما يجيء/ ذلك في لغتين متباينتين، أو لحذف واختصار، وقع في الكلام، حتى اشتبه اللفظان، وخفي سبب ذلك على السامع، فتأول فيه الخطأ؛ وذلك أن الفعل الذي لا يتعدى فاعله، إذا احتيج إلى تعديته، لم يجز تعديته على لفظه الذي هو عليه، حتى يغير إلى لفظ آخر؛ إما بان تزاد في أوله الهمزة، التي تدخل لنقل الفعل، على فَعُل، فيجعل على: أفْعَل، نحو: كرُم وأكرَمَ، وحسُن وأحسَن. وإما بأن يوصل به حرف جر بعد تمامه مثل ذهب وذهب بغيره، وقم وقام بآخر، ونحو ذلك؛ ليستدل السامع على اختلاف المعنيين باختلاف اللفظين؛ إلا أنه ربما كثر استعمال بعض هذا الباب في كلام العرب، حتى يحاولوا تخفيفه، فيحذفوا حرف الجر منه كقولهم: كلته ووزنته؛ أي كلت له، ووزنت له، وأشباه ذلك، فيعرف بطول العادة، وكثرة الاستعمال، وينوب المفعول وإعرابه فيه عن الجار المحذوف. أو يشبه الفعل بفعل آخر، متعد على غير لفظه، فيجرى مجاره؛ لاتفاقهما في المعنى، كقولهم: حبست الدابة، وحبست مالاً على المساكين.

ومما يدل على أن الأصل في "وقفت" ما ذكرنا؛ أنهم يقولون: ما أوقفك ههنا؟، بالألف، ويجدونه أحسن وأفصح عندهم من قولهم: ما وقفك ههنا؟ وهو أكثر استعمالاً منه. والأصل في "وقفت" أن يكون غير متعد بنفسه إلى مفعول مثل: ثبت ولبثت، وألا يعدى إلا بزيادة قبله أو بعده، أو غير ذلك فيقال: أوقفته، أو وقفت به، أو وقَّفته، بالتشديد؛ ثم يجوز حذف الجار بعد ذلك، لما ذكرنا؛/ من وجوب التخفيف؛ لكثرة الاستعمال، وطول معرفته واعتياده، كما قال الله عز وجل: (ولَوْ تَرَى إذْ وقِفُوا عَلَى النَّارِ) وقوله [تعالى]: (وَلَوْ تَرَى إذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ)؛ لأنه بمعنى حبسوا أو محبوسون.

<<  <   >  >>