للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فمنهم من تمكن من الطلوع، ومنهم من تمكن للولوع. وتقبلوا في تلك المخارم كالقلوب بين الضلوع. وعرا أهل الحصن العناء والعياء، وعمهم البلاء وأدركهم الشقاء. فأنهم ما زالوا يقاتلون يومهم من غير مناوبة جميعا، فمنهم من صد صديعا، ومنهم من صار صريعا. وظهر فيهم الفتور، وبدا منهم القصور.

وجاءت النوبة الثالثة تالية، وأقدمت إمدادها متوالية متعالية. وعادت النوبة الأولى لنشاطها، وزادت في انبساطها. فبلغوا وغلبوا، والتهموا والتهبوا. وتعلفوا بالسور، وتسلقوا كالنسور. وطلعت القلعة، وقلعت الطلعة. واقتضت العذرة، واقتضيت النصرة. وأعان القدر فقدر الأعوان، ونتجت بالفتح البكر الحرب العوان. وأن أهل القلعة لما أيقنوا انهم ملكوا، طلبوا الأمان حتى لا يهلكوا.

فلما سمع أصحابنا بالأمان صياحهم، وعرفوا للضراعة التياعهم والتياحهم، كفوا انتظارا لما يأمرهم به السلطان، وإشفاقا من سبى من يشمله الأمان. وكان جماعة من دهاة الخواص عارفين بطرق الاقتناص، فأظهروا أن السلطان آمن أهل القلعة، وأنه يدافع عنهم في هذه الدفعة. وجمعوهم في مواضع وكنائس، وأحرزوا النفوس والنفائس. وعاد عنهم من حضرهم، على ظن أن السلطان منهم وحظرهم. وبقي أولئك الأفراد بهم متفردين، ولتجريدهم للسبي متجردين. وصار ما بالقلعة ومن فيها لهم كسبا وسبيا، وما رأوا لحق من شاركهم في السعي رعيا. وحرموا ما ارتفقوا به وحرموا الرفقاء؛ وحازوا دون الغانمين النهب والسباء. وملك واحد مائة، وحاز الري وحلأ عنه رفقة ظمئه.

ولما تسنى ذلك الفتح وتهنأ؛ وتسهل ذلك الصعب وتهيأ؛ عاد السلطان إلى خيامه، وعاذت الايامن بأيامه. وكانت صاحبة حصن برزيه - أخت زوجة الابرنس صاحبة إنطاكية - وقد سبيت وخبئت. فما زال يطلبها حتى أظهروها وأحضروها، وكان بعد هتك سترها ستروها. فمن عليها بالإعتاق من الإرفاق،

وحل عنها وعن زوجها قيد الوثاق، وأحضر أيضا ابنة لهما وزوجها وعدة من أصحابهم وأدخلهم معهم في الإطلاق. وجمع شملهم بعد الشتات، ووصل حبلهم بعد البتات. وشعبهم وقد تصدعوا، وأشبعهم وقد تجوعوا، وحظرهم وقد استحلوا، وكثرهم وقد استقلوا، وحرمهم وقد استبيحوا، ومنعهم وقد استميحوا. وأحياهم بعد ما هلكوا، وعصمهم بعد ما هتكوا. وحواهم وأغناهم وقد افترقوا وافتقروا، وجبرهم ونعشهم وقد انكسروا وعثروا.

وسير معهم إلى إنطاكية من أوفدهم على ستها، فسرت بأختها، وأعلنت بمقتها من سر مقتها، وأذاعت من مضمر بغضها بمظهر حبها، وجاءها الفرح في غمها والفرج في كربها، وتشكت لأخذ بلدها، وتشكرت لترك أختها وولدها.

<<  <   >  >>