من جانب البحر شمالي عكاء حملة شديدة، كانت لمن قدامهم من الفرنج مبيدة. وفرشوهم على تلك التلول، وردوا مضاربهم من فلم بها بادية الفلول. وانهزم الفرنج إلى تل المصلبة نحو القبة وثبتوا عند الوثبة. وأخلوا ذلك الجانب، وخلوا تلك المذاهب. وقلعت خيامهم منها، وقطعت أطماعهم عنها. فانفتح لنا طريق عكاء ودخلها الرجال، وحملت اليها الغلال، ونقلت إليها الأحمال. ودخل العسكر إليها وخرج، وانكشف ضيق حصرها وانفرج. وذلك من باب القلعة الوسطى إلى باب قراقوش، واستطرقت إليها العساكر والجيوش.
واطلع السلطان على الفرنج من سورها، وشرع في تدبير أمورها. وخرج عسكر
البلد للمؤازرة على قتال العدو العادي، وترك الهوادة في قصر القصر والهوادي. والفرنج قد رهبوا، ولو قدروا هربوا ولكن أصحابنا رأوا أن انفتاح باب البلد غنيمة، وأنهم أي وقت أرادوا كانت منهم عزيمة، ومن العدو هزيمة. وتوقفوا عن الإتمام، وتقدموا عن مقام الإقدام. ولو أنهم استمروا في الحرب على هيئتهم وهيبتهم؛ لباء الأعداء لنجحنا بخيبتهم. فإن الصدمة الأولى أخافت وحافت؛ ونافت بقاء القوم وعلى هلكها أنافت. لكنا تركناهم حتى عادت إليهم الارماق، وعاود فرقهم الافراق. وأبصروا ما بين أيديهم وما خلفهم وأزالوا فيما بينهم بالموافقة خلفهم. وأثبتوا في مستنقع الموت أرجلهم، ورأوا أن الوقت قد أمهلهم.
وقال أمراؤنا: هؤلاء قد سهل أمرهم، وخمد جمرهم. وقد حص رياشهم حصرهم. وهم في قبضتنا أي وقت اردنا، ولقصدهم تجردنا. وقالوا: نصير إلى الظهر ونمضي ونسقي الخيل ونعود، وحينئذ يشتغل بهم العدم ويفرغ منهم الوجود. فانصرفوا على وعد العود، وتفرقوا في مراتعهم تفرق الذود.
وبلع العدو ريقه، ووجد إلى الجلد طريقه، وجمع يعد التفرق فريقه. وضم عن الانتشار راجله، وزم رامحه ونابله. ووقفوا كالسور من وراء الجنوبات، والتراس والقنطاريات. وقد صوبوا الجروخ وفوقوها، وجمعوا العدد وعلى الرجال فرقوها. كأنهم في الدروع أراقم، وفي المجان علاجم، وفي النهوض قشاعم، وفي الضراوة ضراغم.
واختلفت الآراء مع العلم باحتراسهم، وتسترهم بتراسهم. فمنا من يقول: نصبحهم بالزحف، ونزورهم بالحتف. ويترجل الأمراء فيتبعهم الأصحاب، وتنشب من آسادنا في تلك الخنازير من النشاب والأظفار والأنياب، ويتصل الطعان والضراب. فنسفهم ولو أنهم جبال، ونطفئ نيرانهم فلا يقد لهم من بعدها ذبال.
ومنا من يقول: يدخل راجلنا إلى البلد، مستعدا بالأهب متأهبا بالعدد. فإذا زحفنا
إليهم وأوجفنا عليهم، خرج من في البلد من العسكرية والراجل، ونازلناهم من أمامهم ومن ورائهم بالنوازل. فلا تطرف لهم بعدها عين، ولا يبقى لدين بعد درك الثار منهم دين.