فما دمنا على هذه المضايقة والمصابرة؛ والمحاققة والمحاصرة؛ والمكابدة والمكابرة؛ فإنهم يتيقظون وينتبهون، ويتحفظون ولا ينتهون، ويتحرزون ويتحربون، ويتوجلون ويتوجمون. فإذا أرخينا طولهم؛ وأوسعنا أملهم؛ استرسلوا بعد ما استبسلوا، واستقبلوا الدعة بعد ما استقتلوا. واطمأنوا فطمعوا، وإذا أبطأنا تسرعوا. واغتروا بأنا على غرة فأغاروا، وظهرت لهم آثار ركودنا عنهم فظهروا وثاروا، فحينئذ حينهم يحين، وشينهم يشين. وإذا ظهروا ظهرنا عليهم، ومتى أصحروا أصحرنا إليهم. وأن بارزوا بارزناهم، وأنجزنا عدة أمانينا فيهم وناجزناهم.
ومنا من يقول: هؤلاء في عدد النمل، وكثرة الرمل، وظلام الليل، وعرام السيل. فما يقمهم إلا العدد الكثير، ولا يقمعهم إلا الجمع الجم الغفير. والمصلحة أن تستقر العساكر، ونستحضر لإبادتهم البادي والحاضر. ونستجيش الجحافل، ونستثير الفارس والراجل. ونلقاهم بأمثالهم، ونقدم عليهم مستظهرين في قتالهم.
ومنا من يقول: هؤلاء عالم لا يحصى، قد حضروا من الأدنى والأقصى. وأزوادهم عن قريب تفرغ، وآمادهم في الصبر تبلغ. وأمدادهم تنقطع، وأنجادهم تمتنع. وموادهم تقل، وجوادهم تضل. ولمراكبهم في الشتاء شتات، ولحبائلهم وحبالهم انبتات. فإما أن يضطروا إلى الانفصال؛ وإما أن يؤذن فناء أرزاقهم بحلول الآجال، ويهون علينا حربهم في تلك الحال (وكفى الله المؤمنين القتال) فهذا عسكر الإسلام، وجند مصر والشاك. ففي الإقدام به خطر، وفي لمباشرة بحربه غرر. والمصلحة العامة تلحظ، ورأس المال يحفظ.
ومنا من يقول: نستدعى من مصر الاساطيل، ونستدفع بحقها الأباطيل. ونستكثر من مراكبها، ونستعدى على هذه الأفاعي بعقاربها، ونستطيل على الشناة المستطيلة بشوانيها، ونعدو على عوادي الأعادي بعواديهما. وإذا وصلت وقطعت عليهم طرق البحر؛ وصلت لنا أسباب النصر. وحينئذ نقاتلهم برا وبحرا، ونوسعهم بمضايقتهم فيهما قتلا وأسرا.
وما زالت هذه الآراء بيننا متداولة؛ وخواطرنا في تدبيرها متجاولة والحرب بيننا وبين الفرنج جارية، وزناد الهيجاء لإشعال نارها وارية. وفي كل يوم نتصافح بالصفاح، ونتكافأ في الكفاح. وننطق فيهم بكلام الكلوم، ونلحق منهم الوجود بالمعدوم، وللطلائع وقائع، وللوقائع طلائع. وللسهام افواق فائقة، وللحمام أسواق نافقة. وسرايانا في كل يوم وليلة تسرى وتأسر، وتبرى وتأبر. وتكبس وتكسب، وتسبى وتسلب. والسلطان يباشر ذلك كله بنفسه، وهو يدأب في يومه اغده مجتهدا في الزيادة على أمسه. نائبا عن أعوان المسلمين وأنصارهم، ساهرا لهم في ليلهم قائما بأمرهم في نهارهم. والعين الساهرة في سبيل الله قريرة، وتعب يوم واحد لله في اليوم الآخر ذخيرة.