أَيُّهَا الأخوة: إنَّ مِنَ الظلم لمحمد -صلى الله عليه وسلم-، وإنَّ مِنَ الظلم للحقيقة، أن نقيسَه -عليه الصلاة والسلام- بواحدٍ من هؤلاء الآلاف من العظماء الذين لمعت أسماؤهم من دياجي التاريخ، من يوم وُجد التاريخ، فإنَّ مِن العظماء من كان عظيم العقل، ولكنه فقير في العاطفة وفي البيان، ومنهم من كان بليغ القول وثَّاب الخيال، ولكنه عادي الفكر، ومنهم من برع في الإدارة أو القيادة، ولكن سيرته وأخلاقه كانت أخلاق السوقة الفجار.
ومحمد -صلى الله عليه وسلم- هو وحده الذي جمع العظمة من أطرافها، وما من أحد من هؤلاء إلا كانت له نواحٍ يحرص على سترها، وكتمان أمرها، ويخشى أن يطَّلع الناس على خبرها، نواحٍ تتصل بشهوته، أو ترتبط بأسرته، أو تَدُلُّ على ضعفه وشذوذه، ومحمد -صلى الله عليه وسلم- هو وحده الذي كشف حياته للناس جميعًا، فكانت كتابًا مفتوحًا، ليس فيه صفحةٌ مُطبَقَة، ولا سطرٌ مطموس، يقرأُ فيه من شاء ما شاء.
وهو وحده الذي أذن لأصحابه أن يذيعوا عنه كلَّ ما يكون منه ويبلغوه، فرووا كلَّ ما رأوا من أحواله في ساعات الصفاء، وفي ساعات الضعف البشري، وهي ساعات الغضب، والرغبة، والانفعال.
وروى نساؤه كلَّ ما كان بينه وبينهنَّ، هاكم أمّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- تعلن في حياته وبإذنه أوضاعه في بيته، وأحواله مع أهله، لأنَّ فعله كلَّه دين وشريعة ... وكتب الحديث والسير والفقه ممتلئة بها.