للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وصالح عمرُ أهل الجابية ثم سار وقادته إلى بيت المقدس، وكان -رضي الله عنه- في غايةِ التواضع والاستكانة والذّلَّة لِله رب العالمين، قال أبو الغادية المزني: "قدم علينا عمرُ الجابية، وهو على جمل أورق، تلوح صلعته للشمس، ليس عليه عمامةٌ ولا قلنسوة، بين عُودَيْن، وطَاؤه فرو كبْش نجدي، وهو فراشه إذا نزل، وحقيبتُه شملةٌ أو نَمِرةٌ مَحْشوةٌ ليفًا وهي وسادته، عليه قميص قدِ انخرق بعضه، ودَسَم جيبُه".

هكذا نقلوا في وصف مركبه وملبسه، وهيئته وعُدَّتِه، ولو أراد -رضي الله عنه- للبس الحرير، ومشى على الديباج، وركب أصيلات الخيل، ولو شاء لحمل معه المتاع الكثير، ولأحاطت به المراكب والمواكب، ولكنه -رضي الله عنه- علم قيمة الدنيا فأعطاها مُستحقها، وعلم قدر الآخرة ففرغ قلبه لها، وعمل عملها، وسعى لها سعيها.

وقد حاول أمراءُ الجيش أن يُحسِّنوا من هيئته المتواضعة أمام الأعداء، ولكن مَنْ يقدرُ على مَنْ؟ أيقدرون على عمرَ الذي كان كبيرُ الشياطين يخافُه، ويسلكُ فجًّا غير فجّهِ؟ !

فكان من رده عليهم -رضي الله عنه-: "لا أحب أن أُعَوّد نفسي ما لم تعتده، فعليكم معشر المسلمين بالقصد".

وكان من رده -رضي الله عنه- على يزيد بن أبي سفيان -رضي الله عنه-: "يا يزيد ما أُريد أن أتزيَّا للنَّاس بما يَشِينُني عند الله -عز وجل- ولا أريد أن يعظم أمري عند الناس، ويصغر عند الله -عز وجل- فلا ترادّني بعدها في شيء من هذا الكلام"

وواصل عمر -رضي الله عنه- مسيره إلى بيت المقدس على تلك الحال المُتَواضِعَة، فعرضت له مخاضة طين فَنَزل عن بعيره، ونزع نَعْلَيْه فأمسكها بيدٍ وخاض الماء ومعه بعيرُه، فقال له أبو عبيدة: "قد صنعت اليوم صُنعًا عظيمًا عند أهلِ الأرض، صنعت

<<  <   >  >>