للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وبالجملة، فالعامي الذي ليس له من العلم حظ ولا نصيب؛ فرضه التقليد، فإذا وقعت له حادثة استفتى من عَرَفَه عالمًا وعَدْلًا، أو رآه منتصِبًا للإفتاء والتدريس (١).


(١) التمذهب على نوعين:
النوع الأول: الانتساب، وهذا جائز عند جماهير العلماء، وعليه عمل الفقهاء حتى المجتهدين منهم، ومعناه: أن ينتسب الإنسان إلى مذهب من المذاهب، فيقرأ في كتبه ويعتني به ويعتزي إليه، ولا يلزم من ذلك تقليده. وقد منع منه قوم.
وهذا الانتساب هو الأصل في أتباع المذاهب، يقول ابن الجوزي: (فأما المجتهد من أصحابه، فإنه يتبع دليله من غير تقليد له، ولهذا يميل إلى إحدى الروايتين عنه دون الأخرى، وربما اختار ما ليس في المذهب أصلاً؛ لأنه تابع للدليل، وإنما ينسب هذا إلى مذهب أحمد لميله إلى عموم أقواله) ينظر: مناقب الإمام أحمد ص ٦٦٦.

ويقول ابن بدران: (لا يذهب بك الوهم مما قدمنا إلى أن الذين اختاروا مذهب أحمد وقدموه على غيره من الأئمة وهم من كبار أصحابه، أنهم اختاروا تقليده على تقليد غيره في الفروع، فإن مثل هؤلاء يأبى ذلك مسلكهم في كتبهم ومصنفاتهم، بل المراد باختيار مذهبه: إنما هو السلوك على طريقة أصوله في استنباط الأحكام، وإن شئت قل: السلوك في طريق الاجتهاد مسلكه دون مسلك غيره، وأما التقليد في الفروع فإنه يترفع عنه كل من له ذكاء وفطنة وقدرة على تأليف الدليل ومعرفته، وما التقليد إلا للضعفاء الجامدين الذين لا يفرقون بين الغث والسمين، وكيف يُظن بمثل أحمد بن جعفر ابن المنادي، وأبي بكر النجاد، ومحمد بن الحسن أبو بكر الآجري، والحسن بن حامد، والقاضي أبي يعلى محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن الفراء، وأبي الوفاء علي بن عقيل البغدادي، وأبي الخطاب محفوظ بن أحمد الكلوذاني، وعلي بن عبيد الله الزاغوني، وموفق الدين عبد الله بن قدامة المقدسي، وشيخ الإسلام المجد ابن تيمية، وحفيده الإمام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية، والمحقق شمس الدين محمد بن القيم وغيرهم، أنهم مقلدون في الفروع وكتبهم الممتلئة بالأدلة طبقت الآفاق، ومداركهم ومسالكهم سارت بمدحها الركبان، وكتبهم ملأت قلب كل منصف من الإيمان والإيقان، فتنبه أيها الألمعي ولا تكن من المقلدين الغافلين) ينظر: المدخل ص ١١٠.
النوع الثاني: الالتزام، بمعنى: أن يلتزم الإنسان تقليد مذهب إمام بعينه لا يخرج عنه إلا في أحوال معدودة، وهو ما تطرق إليه المؤلف، ولا يخلو ذلك من أمرين:
الأمر الأول: أن يكون ذلك من العاميِّ: وقد اختُلف فيه على قولين:
القول الأول: أنه ليس للعامي أن ينتسب إلى مذهبٍ إمام من الأئمة، بل الواجب عليه أن يسأل المفتين في زمانه، واختاره ابن القيم وانتصر له، وقال: (لأن المذهب إنما يكون لمن له نوع نظر واستدلال، ويكون بصيرًا بالمذاهب على حسبه، أو لمن قرأ كتابًا في فروع ذلك المذهب وعرف فتاوى إمامه وأقواله)، ووافقه صاحب التقرير والتحرير الحنفي (٣/ ٣٥١).
القول الثاني: أن العامي كغيره على ما يأتي من الخلاف، وهو قول جماعة من العلماء.
وقد استحسن المؤلف ألا يلتزم العاميُّ مذهبًا من المذاهب وأنه يسأل من يراه عالمًا عدلًا، وهو ظاهر كلام شيخ الإسلام الآتي.
الأمر الثاني: أن يكون الالتزام من المتفقِّه الذي ارتفع عن درجة العامي ولم يبلغ رتبة الاجتهاد: فقيل: بالجواز. وقيل: بالمنع. وقيل: بالوجوب؛ لدليل مصلحي وهو سد باب تتبع الرُّخص والتشهي.
قال ابن القيم عن القول بوجوب التمذهب بحيث يأخذ بأقواله كلها ويدع أقوال غيره: (وهذه بدعة قبيحة حدثت في الأمة لم يقل بها أحد من أئمة الإِسلام)، وذكر ابن حزم أن التزام المذاهب بدعة نشأت بعد (١٤٠ هـ).
وقال شيخ الإسلام: (جماهير العلماء لا يُوجبون على أحدٍ أن يلتزم قولَ شخصٍ بعينه غيرِ الرسول في كل شيء، إذْ في ذلك تنزيلُ ذلك الشخص منزلة الرسول)، وقال: (من كان قادرًا على الاستدلال الذي يُوصله إلى معرفة الحق في أعيان المسائل كانت هذه الطريقُ خيرًا له، وهي الواجبة عليه، دون تقليدِ شخصٍ واحدٍ في كل شيء، ومن يكن قادرًا على التقليد، فالتقليد المفضَّل لمن يثق بعلمِه ودينه أقوى من التقليد العام المتضمِّن لفضلِ شخصٍ مطلقًا)، ثم قال: (وجماعُ هذا الأصل: أن الله تعالى يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ})، وظاهر كلامه هذا: عدم جواز التزام أحد المذاهب بالنسبة للمتفقِّه القادر على الاستدلال.
قلت: القول بالجواز إذا قُيِّد بما تقدم من تحريم التقليد عند ظهور الحق، وتحريمه على القادر على الاستدلال؛ يكون حينئذ قريبًا من القول بالمنع، ويكون القول بالجواز منحصر بما لو عجز عن الترجيح، فله أن يقلد مذهبه حينئذ.
ينظر: الإحكام لابن حزم ٦/ ١٤٦، أدب المفتي والمستفتي ص ١٦١، صفة الفتوى ص ٧٢، المسودة ص ٩٢١، جامع المسائل المجموعة الثامنة ص ٤٣٨، إعلام الموقعين ٦/ ٢٠٤، غاية الوصول لزكريا الأنصاري ص ١٦٠، البحر المحيط ٨/ ٣٧٣، الغيث الهامع ٣/ ٩٠٤، التحبير ٨/ ٤٠٨٦، شرح الكوكب المنير ٤/ ٥٧٤، إرشاد الفحول ٢/ ٢٥٢، هل المسلم ملزم باتباع مذهب معين للمعصومي.

<<  <   >  >>