للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[المتعصبون خالفوا نصوص أئمتهم في كثير من المسائل واتَّبعوا أقوال المتأخرين]

والمتعصبون لمذاهب الأئمة، تجدهم في أكثر المسائل قد خالفوا نصوص أئمتهم، واتبعوا أقوال المتأخرين من أهل مذهبهم، فهم يحرصون على ما قاله الآخر فالآخر، وكلَّما تأخَّر الرجل أخذوا بكلامه، وهجروا أو كادوا يَهجُرون كلام من فوقه.

فأهل كل عصر إنما يقضون بقول الأدنى فالأدنى إليهم، وكلما بعد العهد ازداد كلام المتقدمين هجرًا ورغبةً عنه، حتى إنَّ كُتب المتقدمين لا تكاد توجد عندهم، فإن وقعت في أيديهم فهي مهجورة.

فالحنابلة قد اعتمدوا على ما في «الإقناع» و «المنتهى»، ولا ينظرون فيما سواهما، ومن خالف مذهب المتأخرين فهو عندهم مخالف لمذهب أحمد، مع أن كثيرًا من المسائل التي جزم بها المتأخرون مخالفة لنصوص أحمد، يعرف ذلك من يعرفه (١).


(١) هذا الكلام موافق لما قاله شيخ المؤلف الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، في رسالته للأحسائي الشافعي: (وأكثر الإقناع والمنتهى مخالف لمذهب أحمد ونصه، يعرف ذلك من عرفه) الدرر السنية ١/ ٤٥.
وقد استشكل هذا الكلام طائفة من الحنابلة ولم يقبلوه من الشيخ، وتمسك به طائفة ممن ينبذ التمذهب بإطلاق، وليس في كلامه إشكال ولله الحمد، ولا خروج عن جادة الحق وطريق أهل العلم، وتوضيح ذلك:
أن كلام الشيخ لا يرجع إلى عموم مسائل الكتابين بلا شك، فإنه وتلاميذه وعلماء دعوته كثيرًا ما يرجعون إليهما ويفتون بما فيهما، وإنما هو راجع إلى المسائل التي أُنكِر على الشيخ مخالفة مذهب المتأخرين فيها.

ودل كلام المؤلف هنا أن مراده بقوله: (أكثر): كثير، وهذا مستعمل في اللغة، قال ابن مالك: (استعمال "أفعل" غير مقصود به تفضيل كثير)، ومنه قوله تعالى: (وهو أهون عليه)، ولذا عبَّر المؤلف أولًا بـ (أكثر)، ثم عبَّر بـ (كثير).
فيكون معنى كلام المجدد رحمه الله: إن كثيرًا مما في الإقناع والمنتهى مما أنكرتم علينا مخالفته؛ هو مخالف لنصوص الإمام أحمد.
وإنما قلنا بأن هذا هو مراد الشيخ لقوله في آخر الكلام: (عرف ذلك من عرفه)، وهذا يدل على عناية الشيخ بالكتابين واطلاعه على نصوص الإمام أحمد، وإذا كان الشيخ قد خَبَر الكتابين هذه الخبرة حتى قال مقولته هذه، فإنه يدرك ما يدركه مَن هو أقل منه خبرة بالمذهب، من أن مادة الإقناع والمنتهى مأخوذة مما جزم المرداوي به في التنقيح والإنصاف بأنه المذهب، ولم يخالفاه إلا في مسائل معدودة، وقد جزم غير واحد بأن ما نص عليه الإمام أحمد ولم يختلف فيه قوله فهو المذهب عند الأصحاب، ولذا فإن غالب ما ذَكر المرداوي بأنه المذهب تجده يقول بعده في الإنصاف: (نص عليه) يعني الإمام أحمد.
وعلى هذا، فمسائل الإقناع والمنتهى بهذا الاعتبار لا تخلو من أقسام:
الأول: مسائل نص عليها الإمام أحمد ولم يختلف فيها قوله، وهي المذكورة في الإقناع والمنتهى: فمثل هذه المسائل لم يُردها الإمام المجدد في عبارته قطعًا.
الثاني: مسائل اختلف قول الإمام أحمد فيها، والذي في الإقناع والمنتهى أحدها: فهذه لم يُرِدْها أيضًا.
الثالث: مسائل ليس للإمام أحمد فيها نص أصلًا: فهذه أيضًا غير مرادة في كلام الشيخ رحمه الله.
الرابع: مسائل ذكر في الإقناع والمنتهى أنها المذهب، وهي مخالفة لنصوص أحمد، أو مخالفة لقوله المتأخر: فهذا النوع من المسائل هو مراد الشيخ، ومثل هذا النوع من المسائل موجود بلا شك في الكتابين، وإليك من كل نوع مثالين:
فمثال ما كان مخالفًا لمنصوص أحمد:
١ - … نص في الإقناع والمنتهى على عدم صحة النكاح إلا بلفظ "إنكاح" أو "تزويج": قال شيخ الإسلام: (الذي عليه أكثر العلماء، أن النكاح ينعقد بغير لفظ الإنكاح والتزويج. قال: وهو المنصوص عن الإمام أحمد رحمه الله) ثم قال: (ولم ينقل أحد عن الامام أحمد رحمه الله أنه خصه بهذين اللفظين)، وذكر أن أول من قال بذلك: الحسن بن حامد. ينظر: الإنصاف ٢٠/ ٩٤.
٢ - … إذا أحرم منفردًا، ثم نوى الإمامة، فالمذهب كما في الإقناع والمنتهى: لا تصح إمامته في نفل ولا فرض، والمنصوص عن أحمد صحتها في النفل والفرض، واختاره شيخ الإسلام. ينظر: الإنصاف ٣/ ٣٧٧.
ومثال ما كان مخالفًا لقول أحمد المتأخر:
١ - … نص المتأخرون على وجوب التسمية في الوضوء: على أن الرواية المتأخرة عن الإمام أحمد ما قاله الخلال: (الذي استقرت عليه الروايات عنه: أنه لا بأس إذا ترك التسمية). وقال ابن رزين: (هذا المذهب الذي استقر عليه قول أحمد) ينظر: الإنصاف ١/ ٢٧٤.
٢ - … نص المتأخرون على جواز دفع الزكاة إلى الزوج: وهي رواية قديمة عن أحمد، قال الخلال: (هذا القول الذى عليه أحمد، ورواية الجواز قول قديم رجع عنه). ينظر: الإنصاف ٧/ ٣٠٦.
ثم إن مثل هذه المسائل فرَّع المتأخرون عليها تفاريع ومسائل، فتكوَّنت فروع كثير هي خلاف ما نص عليه الإمام أحمد، وبهذا يظهر صحة عبارة الشيخ ومراده، والله الهادي إلى سواء السبيل.
وهذا أمر ليس خاصًّا بمذهب الحنابلة، بل وغيره من المذاهب كذلك وأشد:
فعند الحنفية: يقول العلامة اللكنوي: (ما اشتهر أن المتون موضوعة لنقل مذهب الإمام أبي حنيفة حكمٌ أغلبيٌّ لا كلي، فكثيرًا ما ذكروا فيها مذهب صاحبيه إذا كان راجحًا) ينظر: عمدة الرعاية ص ١٠.
وعند المالكية: يقول الأمين الشنقيطي عن مذهب المالكية: (يجب عليه أن يتنبه تنبهًا تامًّا للفرق بين أقوال ذلك الإمام التي خالها حقًّا، وبين ما ألحق بعده على قواعد مذهبه، وما زاده المتأخرون وقتًا بعد وقت من أنواع الاستحسان التي لا أساس لها في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولو علم الإمام بإلحاقهم بمذهبه، لتبرأ منها، وأنكر على مُلحِقِها، فنسبة جميع ذلك للإمام من الباطل الواضح) ينظر: أضواء البيان ٧/ ٣٧٣.
وعند الشافعية: يقول ابن النقَّاش الدُّكَّالي تلميذ تقي الدين السبكي: (الناس اليوم رافعية لا شافعية، ونووية لا نبوية) ينظر: طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة ٣/ ١٣٢.
ثم إن الذي دعا الشيخ لقول هذه العبارة؛ ما عاصره من زمانٍ اشتد فيه التعصب، وحرم بعضهم الخروج عن المذهب، حتى إن الشيخ يقول عن بعضهم في رسالته للأحسائي: (فجزمتم أنه لا ينتفع بكلام الله وكلام رسوله إلا المجتهد، وتقولون: يحرم على غيره أن يطلب الهدى من كلام الله، وكلام رسوله، وكلام أصحابه)، نعوذ بالله من الخذلان.

<<  <   >  >>