للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[الفرق بين المجتهد المطلق المستقل والمجتهد المنتسب والمجتهد المقيد والمقلد]

وهذا مِن جنس ما أشرنا إليه فيما تقدم: من أن المقلِّد إذا كان نبيهًا، وله مَلَكة قوية، ونظر فيما تنازع فيه الأئمة، وأمعن النظر في أدلتهم وتعليلاتهم؛ تبين له الراجح من المرجوح، وحينئذ؛ فيعمل بما تَرجَّح عنده أنه الصواب، ولا يخرج بذلك عن التقليد.

فإذا كان الرجل شافعيًّا أو حنبليًّا، ونظر في كتب الخلاف، ووجد دليلًا صحيحًا قد استدل به مالكٌ، فعمل بالدليل؛ كان هذا هو المناسب في حقه، فيجعل إمامًا بإزاء إمام، ويَسْلَم له الدليل بلا معارض، وليس هذا من الاجتهاد المطلق، بل هو من الاجتهاد المقيَّد، فهو يَتَّبع الدليل، ويُقلِّد الإمام الذي قد أخذ به.

وأما الأخذ بالدليل من غير نظرٍ إلى كلام العلماء؛ فهو وظيفةٌ للمجتهد المطلق.

وأما المقلِّد الذي لم تجتمع (١) فيه الشروط؛ ففرضه (٢) التقليد وسؤال أهل العلم (٣).


(١) في (ب): يجتمع.
(٢) في (أ): فغرضه.
(٣) علمنا مما تقدم أن جمهور العلماء يقسمون الناس باعتبار الاجتهاد في الأدلة إلى ثلاثة أقسام: مجتهد، وعالم لم يبلغ درجة الاجتهاد، ومقلد، وتقدم حكم كل قسم منهم.
وقسم ابن الصلاح - وتبعه ابن حمدان - المجتهد إلى أقسام أخرى باعتبار المذهب، وجميع هذه الأقسام داخل في الثلاثة المذكورة.

إلا أنهما قالا كلامًا أثار شبهة عند البعض، خلاصته: أن القسم الأول من المجتهدين هو المجتهد المستقل، وهو الذي يستقل بإدراك الأحكام من الأدلة الشرعية من غير تقليد وتقيد بمذهب أحد؛ وأن هذا القسم قد فُقد منذ زمن، قال ابن الصلاح: (ومنذ دهر طويل طُوِيَ بساط المفتي المستقل المطلق والمجتهد المستقل)، وذكر مثلهما النووي وغيره.
وفهم البعض من هذا الكلام: إغلاق باب الاجتهاد أو تضييقه، وأن الناس جميعًا يسعهم التقليد اليوم، ثم أضافوا إلى ذلك ما فهموه خطأً من قول جمهور الأصوليين من جواز خلو العصر من مجتهد، خلافًا للحنابلة القائلين بعدم جوازه.
والجواب عن هذه الشبهة:
١ - … أنهما تكلَّما عما أدركاه من ركون الناس إلى التقليد وعدم العناية بآلات الاجتهاد، قال ابن بدران: (ولا يلزم من طي البساط عدم الوجود، فإن فضل الله لا ينحصر في زمان ولا في مكان).
٢ - … أن هذا الأمر لم يوافقهما عليه جماعة من العلماء من الحنابلة وغيرهم؛ كابن مفلح والمرداوي وابن النجار وابن المنير والسيوطي وغيرهم.
٣ - … أن أصحاب المذاهب عدوا جماعة من المجتهد المطلق؛ كابن عبدان ومحمد بن نصر المروزيان والعز بن عبد السلام وابن دقيق العيد والبلقيني وتقي الدين السبكي وابن الصباغ، وهؤلاء جميعًا من الشافعية، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وعدَّ السيوطي نفسه منهم، ولو أردنا استقصاء من وصف بالاجتهاد لطال الكلام.
٤ - … أنهما تحدَّثا عن فرض تركه الناس، وهذا يدل على أن هذه الدرجة من الاجتهاد واجب على الأمة تحصيلها، قال ابن حمدان في معرض تأسفه على ضياع الهمم وترك هذه الدرجة من الاجتهاد: (وهو فرض كفاية قد أهملوه وملُّوه ولم يعقلوه ليفعلوه).
فينبغي أن يكون كلامه هذا مدعاةً إلى الاجتهاد في تحصيل درجة الاجتهاد للقيام بفرض الكفاية، لا أن يكون سببًا لترك أسباب بلوغ تلك الدرجة.
٥ - … أن مسألة جواز خلو العصر من المجتهد، إنما هي في الإمكان وعدمه، لا في الوقوع، ولا يلزم من كون الشيء ممكنًا أن يكون واقعًا، ولذا فإن العراقي لما ذكر المسألة قال: (ذهب الأكثرون إلى جواز خلو الزمان من مجتهد مطلق ومقيد)، فأدخل المجتهد المقيد في المسألة، وهم لا يقولون بعدم وجوده.
٦ - … ما ذكره السيوطي: أن مرادهم بالمجتهد الذي فُقد منذ زمن هو المجتهد المستقل الذي استقل بقواعده لنفسه، يبني عليها الفقه خارجًا عن قواعد المذهب المقررة، بل لو أراده الإنسان اليوم لامتنع عليه ولم يجز له، نص عليه غير واحد. انتهى كلامه.
وقال ابن برهان: (أصول المذاهب وقواعد الأدلة منقولة عن السلف فلا يجوز أن يحدث في الأعصار خلافها).
وقال ابن المنير: (إحداث مذهب زائد بحيث يكون لفروعه أصول وقواعد مباينة لسائر قواعد المتقدمين متعذر الوجود لاستيعاب المتقدمين سائر الأساليب).
وأما المجتهد المطلق المنتسب فغير مراد بكلامهم، وبين السيوطي أن الخلط جاء بسبب عدم التفريق بين المجتهد المطلق المستقل وبين المجتهد المطلق المنتسب، وصنَّف في ذلك كتابه: (الرد على من أخلد إلى الأرض)، وذكر فيه نصوص العلماء في عدم جواز خلو عصر من مجتهد، وأن الاجتهاد فرض كفاية، وذكر من حث على الاجتهاد وذم التقليد، وساق جملة من العلماء الذين وُصِفوا بالاجتهاد المطلق.
وهذا التقسيم صحيح في الجملة كما سيذكره المؤلف، فإنه ليس لأحد أن يأتي بدليل أصلي جديد بعد استقرار الأصول وقواعد الاستدلال، كأن يقول: ما اتفق عليه ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم فهو حجة، فإن هذا أمر قد فُرِغ منه، إلا أنه لا يمكن حمل كلام ابن الصلاح وابن حمدان عليه، ففي بعض كلامهما ما يأباه.
وقد بيَّن ابن جماعة رحمه الله: (إحالة أهل زماننا وجود المجتهد يصدر عن جبن ما، وإلا فكثيرًا ما يكون القائلون لذلك من المجتهدين، وما المانع من فضل الله واختصاص بعض الفيض والوهب والعطاء ببعض أهل الصفوة) الرد على من أخلد إلى الأرض ص ٦٧.
ثم إن القول بانقطاع الاجتهاد يؤدي إلى القول بعدم فائدة علم أصول الفقه، يقول الذهبي: (يا مقلد، ويا من زعم أن الاجتهاد قد انقطع وما بقي مجتهد، لا حاجة لك في الاشتغال بأصول الفقه، ولا فائدة في أصول الفقه إلا لمن يصير مجتهدًا به، فإذا عرفه ولم يَفُكَّ تقليد إمامه؛ لم يصنع شيئًا، بل أتعب نفسه وركب على نفسه الحجة في مسائل، وإن كان يقرؤه لتحصيل الوظائف وليتعال فهذا من الوبال).
ينظر: أدب المفتي ص ٧٨، صفة الفتوى ص ١٧، المسودة ص ٥٤٦، الغيث الهامع ص ٧١٩، الرد على من أخلد إلى الأرض (كاملة)، المدخل لابن بدران ص ٣٧٥.

<<  <   >  >>