للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَيَأْخُذُ بَعْضُ الْمُتَشَدِّدِينَ بِالطَّرِيقِ الْأَصْعَبِ الَّذِي يَشُقُّ عَلَى الْمُكَلَّفِ مِثْلِهِ، وَيَتْرُكُ الطَّرِيقَ الْأَسْهَلَ؛ بِنَاءً عَلَى التَّشْدِيدِ عَلَى النَّفْسِ.

كَالَّذِي يَجِدُ لِلطَّهَارَةِ مَاءَيْنِ: سُخْنًا وَبَارِدًا فَيَتَحَرَّى الْبَارِدَ الشَّاقَّ اسْتِعْمَالُهُ، وَيَتْرُكُ الْآخَرَ، فَهَذَا لَمْ يُعْطِ النَّفْسَ حَقَّهَا الَّذِي طَلَبَهُ الشَّارِعُ مِنْهُ، وَخَالَفَ دَلِيلَ رَفْعِ الْحَرَجِ مِنْ غَيْرِ مَعْنًى زَائِدٍ، فَالشَّارِعُ لَمْ يَرْضَ بِشَرْعِيَّةِ مِثْلِهِ، وَقَدْ قَالَ (اللَّهُ) تَعَالَى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: ٢٩]، فَصَارَ مُتَّبِعًا لِهَوَاهُ.

وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟ إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عِنْدَ الْكَرِيهَاتِ». . . الْحَدِيثَ؛ مِنْ حَيْثُ كَانَ الْإِسْبَاغُ مَعَ كَرَاهِيَةِ النَّفْسِ سَبَبًا لِمَحْوِ الْخَطَايَا وَرَفْعِ الدَّرَجَاتِ، فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَسْعَى فِي تَحْصِيلِ هَذَا الْأَجْرِ بِإِكْرَاهِ النَّفْسِ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا بِتَحَرِّي إِدْخَالِ الْكَرَاهِيَةِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّا نَقُولُ: لَا دَلِيلَ فِي الْحَدِيثِ عَلَى مَا قُلْتُمْ، وَإِنَّمَا فِيهِ أَنَّ الْإِسْبَاغَ مَعَ وُجُودِ الْكَرَاهِيَةِ، فَفِيهِ أَمْرٌ زَائِدٌ؛ كَالرَّجُلِ يَجِدُ مَاءً بَارِدًا فِي زَمَانِ الشِّتَاءِ وَلَا يَجِدُهُ سُخْنًا فَلَا يَمْنَعُهُ شِدَّةُ بَرْدِهِ عَنْ كَمَالِ الْإِسْبَاغِ، وَأَمَّا الْقَصْدُ إِلَى الْكَرَاهِيَةِ؛ فَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ مَا يَقْتَضِيهِ، بَلْ فِي الْأَدِلَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَرْفُوعٌ عَنِ الْعِبَادِ، وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّ الْحَدِيثَ يَقْتَضِيهِ؛ لَكَانَتْ أَدِلَّةُ رَفْعِ الْحَرَجِ تَعَارُضُهُ، وَهِيَ قَطْعِيَّةٌ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ ظَنِّيٌّ، فَلَا تَعَارُضَ بَيْنِهِمَا؛ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى تَقْدِيمِ الْقَطْعِيِّ.

<<  <  ج: ص:  >  >>