لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ إِلَى مَعْرِفَةِ حُدُوثِ الْعَالَمِ وَإِثْبَاتِ الصَّانِعِ إِلَّا بِثُبُوتِ الْأَعْرَاضِ، وَكَالْحُلُولِيَّةِ وَالنُّصَيْرِيَّةِ وَأَشْبَاهِهِمْ مِنَ الْغُلَاةِ.
هَذَا مَا قَالَ الطَّرْطُوشِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَهُوَ حَسَنٌ مِنَ التَّقْرِيرِ، غَيْرَ أَنَّهُ يَبْقَى لِلنَّظَرِ فِي كَلَامِهِ مَجَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا اخْتَارَ مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ الْأَجْنَاسَ ; فَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ أَعْيَانَ الْبِدَعِ وَقَدِ ارْتَضَى اعْتِبَارَ الْبِدَعِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ ; فَمُشْكِلٌ، لِأَنَّا إِذَا اعْتَبَرْنَا كُلَّ بِدْعَةٍ دَقَّتْ أَوْ جَلَّتْ فَكُلُّ مَنِ ابْتَدَعَ بِدَعًا كَيْفَ كَانَتْ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ هُوَ وَمَنْ تَابَعَهُ عَلَيْهَا فِرْقَةً، فَلَا تَقِفُ فِي مِائَةٍ وَلَا مِائَتَيْنِ، فَضْلًا عَنْ وُقُوعِهَا فِي اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ، وَأَنَّ الْبِدَعَ - كَمَا قَالَ - لَا تَزَالُ تَحْدُثُ مَعَ مُرُورِ الْأَزْمِنَةِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ.
وَقَدْ مَرَّ مِنَ النَّقْلِ مَا يُشْعِرُ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَا مِنْ عَامٍ إِلَّا وَالنَّاسُ يُحْيُونَ فِيهِ بِدْعَةً وَيُمِيتُونَ فِيهِ سُنَّةً، حَتَّى تَحْيَا الْبِدَعُ وَتَمُوتَ السُّنَنُ. وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي الْوَاقِعِ، فَإِنَّ الْبِدَعَ قَدْ نَشَأَتْ إِلَى الْآنَ وَلَا تَزَالُ تَكْثُرُ، وَإِنْ فَرَضْنَا إِزَالَةَ بِدَعِ الزَّائِغِينَ فِي الْعَقَائِدِ كُلِّهَا لَكَانَ الَّذِي يَبْقَى أَكْثَرَ مِنِ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فَمَا قَالَهُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - غَيْرُ مُخَلَّصٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّ حَاصِلَ كَلَامِهِ أَنَّ هَذِهِ الْفِرَقَ لَمْ تَتَعَيَّنْ بَعْدُ، بِخِلَافِ الْقَوْلِ الْمُتَقَدِّمِ، وَهُوَ أَصَحُّ فِي النَّظَرِ، لِأَنَّ ذَلِكَ التَّعْيِينَ لَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ، وَالْعَقْلُ لَا يَقْتَضِيهِ. وَأَيْضًا فَالْمُنَازِعَ لَهُ أَنْ يَتَكَلَّفَ مِنْ مَسَائِلِ الْخِلَافِ الَّتِي بَيْنَ الْأَشْعَرِيَّةِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute