وأما قول أبي حنيفة إن المصدر لا يدخل في مفهومه الكثرة فلا يتحقق العموم فلا يتحقق التخصص فلا يخلصه، لأنا نقول لا أكل، يدل على نفي المصدر مطابقة وعلى المفعول التزاماً، لأنه من لوازم الفعل أن له مفعولاً، فهذا اللازم إن كان عاماً دخله التخصيص، وإن لم يكن عاماً، بل إن اللفظ يقتضي أن له مفعولاً ما وهو الصحيح؛ فيدخله التقييد، لأن المطلقات تقيد، وإنما كان لا يحنث لأنه لو قال والله لأكلت رجلاً ونوى تقييده يزيد لم يحنث بغيره، فالمقصود من عدم الحنث حاصل على تقديري التخصيص والتقييد، ومقصود أبي حنيفة فائت على التقديرين من عدم الحنث.
غير أن هنا قاعدة للحنفية أخبرني بها فضلاؤهم وهي أن النية إنّما تؤثر عندهم تخصيصاً أو تقييداً فيما دل اللفظ عليه مطابقة، أما التزاماً فلا، فلذلك ألغينا النية في هذه الصورة تخصيصاً وتقييداً، وبهذه القاعدة يظهر الفرق بين قوله لا كلمت رجلاً، يصح تقييده، وبين لا أكلت؛ لأن دلالة رجل على زيد بالمطابقة، بمعنى أن مسمى رجل صادق عليه، وفي المواكيل دلالة الالتزام فقط، ثم إن هذه القاعدة لم أر لهم عليها دليلاً بل دعوى مجردة، ويدل على بطلانها قوله عليه الصلاة والسلام «وإنما لكل امرئ ما نوى» وهذا قد نوى شيئاً فيكون له والأصل عدم المانع عن النية حتى يذكروا دليلاً عليه.
وأما استدلال أصحابنا عليهم بالمصدر إذا نطق به نحو: لا أكلت أكلاً بإلزام ظاهر؛ لأن النحاة اتفقوا على أن ذكر المصدر بعد الأفعال إنّما هو تأكيد للفعل والتأكيد للفعل لا ينشئ حكماً، بل ما هو ثابت قبله، فإذا صح اعتبار النية معه وجب اعتبارها قبله. فهذه كلام حق.
وأم إلزامهم لنا عدم جواز التخصيص بالزمان والمكان وقياسهم المفعول به على المفعول فيه، فنحن لا نساعدهم ولا الشافعية على الحكم في الظرفين، بل إذا قال: والله لا أكلت، ونوى يوماً معيناً أو مكاناً معيناً لم يحنث بغيره، فيلزمهم ما ألزمناهم ولا يلزمنا ما ألزمونا. والفعل في سياق النفي مطلقاً يعم،