يحصل العلم وقد لا يحصل، وأنها تحتاج للحس والعقل، غير أن الفرق بينها أن المتواترات تختص بالأخبار والحدسيات تحتاج إلى نظر حالة القضاء على الجزئيات، والمجربات لا تحتاج إلى نظر حالة القضاء على الجزئيات، فإذا قال لك أحد أن معي مسك هي هو عطر أم لا؟ قلت هو عطر، أو معي ليمونة هل هي حامضة أم لا؟ قلت هي حامضة، أو معي حنظلة هل هي مرة أم لا؟ قلت مرة، من غير احتياجك إلى نظر في ذلك الفرد، أما لو قال لك معي درهم هل هو جيد أم لا؟ قلت حتى أنظر غليه. أو معي رمانة هل هي نضيجة أم لا؟ قلت حتى أنظر إليها. أو عندي رجل هل هو شجاع أو جبان؟ قلت حتى أنظر إليه. فهذا هو الفرق بينها.
سؤال: يلزم أن الاستدلال بوجود العالم على وجود الصانع من هذا الباب وليس كذلك، بل هو عقلي، فإن الحس إذا شاهد الصنعة قال لها صانع، فقد اجتمع الحس والعقل، ولو فقد أحدهما لم يحصل العلم.
جوابه: إن هذا عقلي والملازمة بينهما عقلية، والفرق بينه وبين المجربات والحدسيات من وجوه: الأول إن هذا عقلي وتلك عادية، وثانيها هذا يكفي فيه مطلق المشاهدة، وتلك لا بد فيها من التكرار، وثالثها إن هذا يكون في مادة الوجوب وتلك في مادة الإمكان. وإنما كانت الوجدانيات أشبه بالحسيات لأن الحس لا يدرك إلا جزئياً فلا يسمع كل صوت ولا يمكن أن يذوق كل طعم ولا يلمس كل لبونة أو حرارة، بل فرداً خاصاً من ذلك النوع، فمدركات الحس أبداً جزئية، والعقل هو المدرك للأمور الكلية فهو الذي يقول كل مسك عطر وكل ليمونة حامضة؛ فمدركات العقول كليات ومدركات الحواس جزئيات، والوجدانيات أمور جزئية فإنه لا يقوم بالإنسان كل جوع ولا كل عطش، بل فرد من ذلك، فهي جزئية وليست حسية لأن من فقد حواسه كلها وجد ألمه، وليست عقلية لأنها
جزئية، فلذلك ألحقها العلماء بالحسيات دون العقليات، وهي قبيل قائم بذاته غيرهما.
فائدة: اختلف العلماء هل الحواس مع العقل كالحجاب مع الملك أو كالطاقات؟ فقيل كالحجاب، والحواس تدرك أولاً ويحصل لها العلم ثم تؤدي تلك العلوم الجزئية