وعن الصَّعب بن زُهير بن عبد الله بن جَنادة أبي رملة أنَّ سفيان بن عوف حدَّثه بمكة، والتقيا في الحجِّ، فقال: إنَّي لعندَ معاوية إذ أُتي برأس عمار بن ياسر، فقال عبد الله بن عمرو بن العاصي: بشِّر قاتل عمار بالنار. فقال معاوية، وضرب على صدره: أبطلت، ففيهم نحن إذاً؟ فقال: سمعت النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول: " تقتل عمار الفئة الباغية ". فقال معاوية: صدَقْت، إنك لا تعرف تأويل هذا المنطق، نبغي قتلة ابن عفان حتى ننقى بدمه.
وعَهِدَ إليه صلى الله عليه وسلم أنَّ آخر شُربة يشربها من الدنيا شَربة لبن. فاستسقى يوم صفين. فأتته امرأة طويلة اليدين بإناء فيه ضَيَاح من لبن، فقال عمار حين شربه: الحمد لله، الجنة تحت الأسنَّة. ثم قاتل حتى قُتِل.
وكانت سنُّ عمار يوم قُتِل نيِّفا على تسعين سنة. قتله أبو الغادية الفِزاريُّ، واحتزَّ ابن جُزء السَّكسَكيُّ. ودفنه علي في ثيابه، ولم يُغسِّله. وروى أهل الكوفة أنه صلَّى عليه. وهو مذهبهم في الشهداء أنهم لا يُغسَلون، ولكنَّهم يُصلَّى عليهم.
وكانت صفين في ربيع الآخر سنة سبع وثلاثين. ولما أجهد أهل الشام القتال بصفين، وسئموا منه، وخافوا الفناء رفعوا المصاحف على أسنَّة الرِّماح، وقالوا: بيننا وبينكم كتاب الله. أمرهم بذلك عمرو بن العاصي، فقال أهل العراق لعليّ: يا أمير المؤمنين، بيننا وبينهم كتاب الله نُحاكمهم إليه. فقال:" إنها مكيدة منهم، فناجزوهم حتى يرجعوا في أمر الله وحُكمه ". فأبوا عليه.
وحَكَّم أهل العراق أبا موسى الأشعريَّ، وحكَّم أهل الشام عمرو بن العاصي. وكان عليٌّ قال لأهل العراق:" حكِّموا عبد الله بن عباس ". فقالوا: لا والله، لا يجتمع في الحُكم مُضريَّان. فلما اجتمع أبو موسى وعمرو مكر عمرو بأبي موسى.