بن العاصي أحد الدُّهاة في أمور الدنيا المقدَّمين في الرأي والميز والدَّهاء. وكان عمر إذا استضعف رجلاً في رأيه وعقله قال: أشهد أنَّ خالقك وخالق عمرو واحد؛ يريد خالق الأضداد.
ولما حضرته الوفاة قال: اللهمَّ إنك أمرتني فلم أَأتَمر، وزجرتني فلم أنزجر. ووضع يده في موضع الغُلِّ فقال: اللهمِّ لا قويَّ فأنتصر، ولا بريَْ فأعتذر، ولا مُستكبر، لا إله إلا أنت. فلم يزل يردِّدُها حتى مات.
وحدَّث أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطَّحاويُّ عن أبي إبراهيم إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل بن عمرو بن إسحاق المزني صاحب الشافعي قال: سمعت الشافعيَّ يقول: دخل ابنُ عباس على عمرو بن العاصي في مرضه، فسلم عليه وقال: كيف أصبحت يا أبا عبد الله؟ قال: أصبحت وقد أصلحت من دنياي كثيراً، وأفسدت من ديني كثيراً. فلو كان الذي أصلحت هو الذي أفسدت، والذي أفسدت هو الذي أصلحتُ لفزتُ. ولو كان ينفعني أنْ اطلب طلبتُ. والذي يُنجيني أن أهرب هربت، فصرت كالمنخنق بين السماء والأرض لا أرقى بيدين، ولا أهبط برجلين. فعِظْني بعظة ٍ أنتفعُ بها يا بْن أخي. فقال له ابنُ عباس: هَيهات يا أبا عبد الله، صار ابنُ أخيك أخاك، ولا تشاء أن تبكي إلا بكيت، كيف يؤمر برحيل من هو مقيم؟ فقال عمرو على حينها: من حين ابن بضع وثمانين تُقنِّطني من رحمة ربي. اللهمَّ إنَّ ابن عباس يُقنِّطني من رحمتك، فخذ مني حتى ترضى. فقال ابنُ عباس: هيهات يا أبا عبد الله، أخذت جديداً وتُعطى خَلَقاً. فقال عمرو: مالي ولك يا بن عباسٍ!، ما أُرسل كلمةً إلا أرسلت نقيضتها؟.
وابنه عبد الله بن عمرو بن العاصي: كان يُكنى أبا محمد، وهو الأشهرُ. أمُّه رَيطةُ بنت مُنبِّه بن الحجاج السَّهميَّة. ولم يَعلُهُ أبوه في السنِّ إلا باثنتَي عشرة سنةً. وُلد لعمرو عبد الله وهو ابن اثنتي عشرة سنةً. أسلم قبل أبيه، وكان فاضلاً، حافظاً، عالماً، قرأ الكتب. واستأذن النبيَّ صلى الله عليه وسلم في أن يكتب حديثه، فأذِنَ له. قال: يا رسول الله، أأكتبُ كلَّ ما أسمع منك في الرضى والغضب؟ قال:" نعم، فإني لا أقول إلا حقاً ".