كان يعدل ويغيّر في ترتيب الكتاب وتبويبه، ويزيد فيه وينقص منه هنا وهناك، أو يغير في لفظه مما يراه مناسباً، ومن هنا يتعين الانتباه إلى آخر ما ارتضاه من الموطأ باعتباره يمثل النشرة الأخيرة التي أرادها المؤلف لهذا الكتاب.
الثاني: جواز رواية الحديث بالمعنى، وهو أمر يحتاج إلى مزيد توضيح وبيان على الرغم من تناول كتب مصطلح الحديث هذا الموضوع، وقولهم بأن رواية الحديث جائزة بالمعنى شرط أن لا تحيل المعاني عن مواضعها ومقاصدها.
والحقّ أن الموطأ من الأمثلة الواضحة على رواية الحديث بالمعنى، وعدم الالتزام الكامل بالألفاظ وتسلسلها بين رواية وأخرى، فالملاحظ أن الاختلاف بين الموطآت في ألفاظ الأحاديث كثير إلى حد يصعب حصره في التعليق على أية رواية من هذه الروايات، وقد جربنا ذلك مثلاً بين رواية يحيى المصمودي ورواية أبي مصعب الزهري، أو محاولة إثبات الخلاف في ألفاظ الحديث بين رواة الحديث عند مالك، فوجدنا أن الأمر يحتاج إلى تسويد مئات الصفحات من الحواشي لتوضيح هذه الاختلافات. وفي الوقت الذي نؤكد هذه الحقيقة الماثلة للعيان جراء التجربة والملاحظة، علينا أن ندرك في الوقت نفسه جملة أمور منها:
أ - أن الإمام مالك بن أنس قد بلغ الغاية في الدقة والضبط والإتقان والإمامة والديانة، وهو إمام في الحديث قلّ نظيره، وأنه قد أملى الموطأ في مدد مختلفة، فكأنه كان يغير في بعض الألفاظ أو يختصر بين حين وآخر.
ب - وإنما يدل على صحة ما ذكرنا أن الرواة الثقات لموطأ مالك قد اختلفوا فيما بينهم اختلافاً كبيراً يدل على احتمال أن يكون هذا الاختلاف من مالك نفسه، فضلاً عن احتمال بعض التغييرات في الألفاظ من الرواة أنفسهم بسبب روايتهم لها».