للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

٣ - أن الشريعة التي كان عليها الخضر لم تكن في حقيقتها مخالفة للشريعة التي عليها موسى، وإنما كان يخفى على موسى فقط الخلفية التي من أجلها فعل الخضر ما فعله، ولذلك فإن الخضر ـ عندما بين لموسى الأسباب التي دفعته إلى خرق السفينة وقتل الغلام وبناء الجدار ـ لم يستنكر موسى شيئًا من ذلك لأن هذا كله سائغ في الشريعة:

أ- فإتلاف بعض المال لاستنقاذ بعضه جائز فلو وكلت مثلًا رجلًا على عمل لك ثم جاء لصوص أو ظلمه قطاع طريق ليستولوا على المال كله، ولم يجد هذا الوكيل وسيلة لدفعهم إلا بأن يدفع لهم بعض المال ويتركوا بعضه لما كان ملومًا شرعًا، ولا يُلام ممن وكله بل يستحسن فعله، وما فعله الخضر بالنسبة إلى السفينة لا يعدو ذلك فهو إنما أفسد السفينة فسادًا جزئيًا لتظهر لأعوان ذلك الملك الظالم أنها غير صالحة فيتركوها وبذلك تسلم من الغصب، ولا شك أن ما فعله الخضر في حقيقته إحسان لأصحاب السفينة؛ لأن الله أطلعه على شيء من المستقبل في أن ذلك الملك الظالم سيصادر السفن لأمر ما، كما هو حال كثير من الرؤساء والملوك الظلمة يصادرون وسائل النقل أحيانًا إما لمصالحهم أو لمصلحة عامة.

فما فعله الخضر بالنسبة إلى السفينة موافق للشرع الإلهي تمامًا وليس مخالفًا للتشريع، وإنكار موسى في أول الأمر ناشئ من أنه لم يعرف الخلفية الغيبية التي كان الله قد أطلع عليها الخضر بوحي من عنده.

ب- وأما قتل الغلام فهوكذلك سائغ في الشريعة إذا كان هذا الغلام سيكون ظالمًا لوالديه، مجبِرًا لهما على الكفر وكان هذا مما علمه الله مستقبلًا، وأطلع عليه الخضر، فكان قتله أيضًا سائغًا، وقد جاءت الشريعة بقتل الصائل المعتدي. حقًا إن الشريعة لا تأمر بقتل الصائل إلا إذا باشر العدوان، والطفل هنا لم يباشر العدوان بعد، ولكن القتل هنا بأمر الله - سبحانه وتعالى - الذي يعلم ما سيكون، وقد كان هذا منه - سبحانه وتعالى - رحمة بعبدين من عباده صالحين أراد الله - عز وجل - أن لا يتعرضا لفتنة هذا الولد العاق فيتألما ألمين:

الألم الأول: أنه ولدهما وعقوق الأولاد شديد على قلوب الآباء.

والثاني: أنهما قد يبلغان الكفر ويتعبان في التمسك بالإيمان وهذا عذاب آخر، فجمع الله سبحانه وتعالى لهما عذابًا واحدًا فقط وهو فقد الولد، وفيه خير لهما ولا شك لأن صبرهما، أيضًا على فقده فيه خير لهما. فلما علم الله ذلك، وأطلع الخضر عليه، ونفذ هذا بأمر الله كان ذلك كله موافقًا للشريعة التي عليها موسى وعليها محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - وعليها سائر الأنبياء.

ولذلك لما قيل لابن عباس - رضي الله عنه - على هذه الحادثة: أيجوز أن نقتل الأولاد؟ قال: «إذا علمت منهم ما علم الخضر فافعل». أي إن ذلك سائغ في الشريعة ولكن أين من يطلعه الله على الغيب كما أطلع الخضر - عليه السلام -.

جـ - وأما مسألة بناء جدار لقوم بخلاء لم يبذلوا القِرَى (بكسر القاف) والضيافة الواجبة، فإن ذلك من باب مقابلة الإساءة بالإحسان، وهذا خلق من أخلاق الشريعة الإسلامية وما فعله الخضر هو من باب الإحسان إلى قوم قدموا الإساءة.

ثم إن إحسانه لهذين الغلامين لم يتأت منهما إساءة وكان أبوهما رجلًا صالحًا وهم في قرية ظالمة بخيلة، ولو هدم جدار بيتهم لانكشف كنزهم ولاستولى عليه هؤلاء القوم البخلاء، فلا شك أن ما فعله الخضر من بناء الجدار هو عين ما تأمر به كل شرائع الأنبياء التي أمرت بالفضل والإحسان، ورعاية اليتامى وحفظ حقوقهم.

* فأي شيء يستغرب مما فعله الخضر؟ وأي حقيقة اطلع عليها الخضر تخالف ظاهر شريعة كان عليها موسى؟ بل ما فعله الخضر موافق تمامًا لشريعة موسى ولشريعة عيسى ولشريعة محمد ولكل شرائع الله المنزلة، ولم يقل الخضر أو يفعل شيئًا يخالف ما كان عليه الأنبياء - عليهم السلام -، وإنما فقط أطلعه الله على بعض أسرار المقادير ففعل ما فعل من الحق الذي لا تنكره الشرائع بناء على هذه الأخبار والأنباء التي أطلعه الله عليها. وباختصار لم يفعل الخضر شيئًا مخالفًا لشريعة موسى فافهم هذا جيدًا وتمسك به.

٤ - وجود الخضر - عليه السلام - على دين وشريعة غير شريعة موسى كان أمرًا سائغًا وسنة من سنن الله قبل بعثة محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -؛ لأن النبي كان يبعث إلى قومه خاصة، ولذلك كان موسى رسولًا إلى بني إسرائيل فقط، ولم يكن رسولًا للعالمين، ولذلك لما سلم موسى على

<<  <   >  >>