وتبقى طريقة الحاكم- الذي لم يعقّب بشيء على هذه الاستدلالات- في الدلالة على هذا المذهب أقرب على كل حال، مع قيام الاحتمال الذي قدمناه، قال في الآية المتقدمة (قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ .. ) إن المراد بالإماتة الأولى: التي تكون في الدنيا بعد الحياة، والثانية التي تكون في القبر قبل البعث. والمراد بالحياة الأولى في القبر، والثانية في الحشر.
وذكر وجوها أخرى لم يقبل منها رأي من قال إن المراد بالموتة الأولى حيث كانوا نطفا فأحياهم في الدنيا، ثم أماتهم الموتة الثانية، ثم أحياهم للبعث،- فهما حياتان وموتتان- وذلك لأن إطلاق اسم الموت على النطقة مجاز! ثم قال في الأحكام: «يدل قوله (ربنا أمتنا) على صحة ما نقوله في عذاب القبر. ومتى قيل: فالإحياء يجب أن يكون ثلاثا! قلنا: إثبات حياتين لا يمنع اثبات ثالث!
«ومتى قيل: فمتى يكون عذاب القبر؟ قلنا: اختلفوا فيه، فمنهم من قال أول ما يدفن. وقيل: ما بين النفختين، فأما مشايخنا فيقولون: نقطع بكونه، وأما وقته فلا نقطع فيجوز أن يتقدم ويتأخر.
«ومتى قيل: هلّا قلتم إن الميت يعذب أو الروح؟ قلنا أما الميت فيستحيل أن يألم، وأما الروح فهو النفس، وليس هو المكلف «١». ومتى قيل: فما الفائدة فيه؟ قلنا: الله أعلم بوجه المصلحة، ويجوز أن يكون لطفا للملائكة، والخبر عنه لطف لنا، فأما الميت فيستحيل أن يكون لطفا له لانقطاع التكليف!
(١) واستدل بقوله تعالى (يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً) على أن البعث يكون «لهذه البنية لأنها في الأجداث بأن يحييها الله تعالى فتخرج، فيبطل قول من يقول إن البعثة على الأرواح» ورقة ٧٥/ ظ.