للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[حكم النذر المعلق وغير المعلق]

أما حكم النذر: فالعلماء اختلفوا في ذلك على أقوال ثلاثة: فمنهم من أباحه، ومنهم من منعه، ومنهم من قال بجوازه على الكراهة.

وجماهير أهل العلم يرون أن النذر جائز مع الكراهة، ومعنى الكراهة: أنه لا يأثم فاعله ولكن يثاب تاركه، والكراهة هنا كراهة تنزيهية لا كراهة تحريمية، ويستدلون على ذلك بالأثر والنظر.

فأما الأثر: فإنهم يستدلون بحديث ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنه لا يأتي بخير -يعني: النذر- وإنما يستخرج به من البخيل)، فقالوا: إن كان لا يأتي بخير فهو مكروه، ويستخرج به من البخيل، وهذا من لوازمه المذمة للذي نذر.

وأما النظر: فلعل الذي ينذر نذراً لا يستطيع أن يوفي به، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اكلفوا من الأعمال ما تطيقون)، وعملاً بقول الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:٢٨٦]، وهذه العلة تجعلنا نقول بالكراهة.

والذين قالوا بالإباحة قالوا: نحن نقول: إن النذر المطلق على الإباحة، فلو قال: لله علي أن أصوم شهراً، أو لله علي أن أصلي مائة ركعة، فهذا على الإباحة، وأما إذا جعله معلقاً بشروط، كأن يقول: إن شفى الله ابني فله علي أن أصوم يومين أو ثلاثة، فهذا المكروه.

والقول الثالث هو قول المحققين من أتباع المذاهب، وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم: أنه على التحريم، وهذا الذي وصل إليه القرطبي في المفهم، واستحسنه ابن حجر، وذلك لأدلة من الأثر ومن النظر: فأما من الأثر: فاستدلوا بحديث ابن عمر السابق، وأول الحديث فيه: (نهانا النبي صلى الله عليه وسلم عن النذر)، والأصل في النهي التحريم.

وقال: (إنه لا يأتي بخير)، والذي لا يأتي بخير محرم.

وقال: (إنما يستخرج به من البخيل)، وفي رواية أخرى قال عنها الهيثمي: رجالها رجال الصحيح، وهي في المسند عن ابن عمر أنه قال: (نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النذر، وأمرنا بالوفاء).

ويجمع بين هذه الأقوال: بأن النهي هنا نهي عن النذر ابتداء، لكن لا بد بعد النذر من أن توفي به، ولذلك مدح الله الذين يوفون بالنذر، لكن في الأصل هو منهي عنه.

وأما من النظر: فقالوا: القاعدة عند العلماء: أن الوسائل لها أحكام المقاصد، ولو نظرنا في النذر لوجدنا أن هناك أناساً ينذرون ولا يوفون بهذا النذر، فيلتزمون بأمر يشق عليهم، فيذَمُّون عند الله بعدم الوفاء، واستدلوا على ذلك بقول الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [التوبة:٧٥ - ٧٦]، فكان الجزاء على هذا التقاعس أن الله عاقبهم بنفاق في قلوبهم ولحقتهم المذمة.

فقالوا: الوسائل لها أحكام المقاصد، فإن كان النذر هو الذي تسبب في إلحاق المذمة والنفاق في قلوبهم فيحرم، والنفاق مذموم، ويحرم أن يستخدم الإنسان الطريق الذي يصل به إلى مذمة الله، فالنذر الذي وصل بهم إلى مذمة الله حرام، والوسائل لها أحكام المقاصد.

ولعل أرجح هذه الأقوال هو القول الثالث، فإذا نذر الإنسان نذراً معلقاً أو غير معلق فإنه محرم، أو يتردد بين الكراهة والحرمة وهو إلى الحرمة أقرب، وهذا هو قول المحققين من أهل العلم.

<<  <  ج: ص:  >  >>