للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الحكم المستفادة من أمر النبي للمحكومين بالسمع والطاعة]

أما الحكم المستفادة من أمر النبي صلى الله عليه وسلم للمحكومين بالسمع والطاعة لولاة الأمور فهي كالتالي: أولاً: الالتفاف حول رجل يقيم الله به الدين، وقد علمنا واقعاً وأثراً أن الله ينصر هذا الدين بالرجل البر والفاجر، فلا بد من الالتفاف حوله.

ثانياً: أن الله جل في علاه إذا سلط عليك من يظلمك فإنما يريد بك الخير، فلعل ذلك تكفير لسيئاتك، أو رفع لدرجاتك، ثم يختبر صبرك على هذا الابتلاء هل تصبر عند المكاره أم لا، وليميز الخبيث من الطيب، والذي يعمل من أجله ممن لا يعمل من أجله سبحانه.

ثالثاً: عدم الخروج عليه بعد ذلك إلا إذا حصل منه كفر بواح، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان)، ولا يجوز لأي أحد أن يكفِّر كما هو الحال في زماننا إلا من كان عالماً مجتهداً، فإنه يحق له أن يقول في هذا الشيء: إنه كفر، أو يقول طالب العلم الذي يعلم كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم في آية أو حديث: إنها من الأشياء التي لا عذر بالتأويل فيها.

وهنا

السؤال

لماذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الخروج على الحكام؟

و

الجواب

لأنه يعلم أن ذلك سبب رئيس في حصول الشر والفساد والبلاء الذي لا يمكن رفعه؛ لأن الخروج على الحكام يجعل صاحبه يتبنى هذا المذهب الفاسد، ويرجو أن يحقق مصلحته، زاعماً أنه يريد تطبيق شريعة الله جل في علاه، وقد تعقب هذه المصلحة مفاسد عظمى، مما يؤدي ذلك في النهاية إلى استباحة بيضة الإسلام بسبب اعوجاج فكر هذا الرجل الذي يريد بزعمه إقامة دين الله جل في علاه.

والصور التاريخية والوقائع تدل على ذلك: فقد كان عثمان بن عفان رضي الله عنه من أعدل الناس وأفضلهم على الإطلاق، إلا أن شرذمة من المعوجين خرجوا عليه زاعمين أنه يحابي أهله! ويعطي المال لأهله وذويه وليس من الصلاح بمكان، حتى قتلوه في النهاية صابراً محتسباً رضي الله عنه، فقام الفقيه الذي قال لـ عمر بن الخطاب: ما لك ولها! إنه حذيفة رضي الله عنه صاحب سر النبي صلى الله عليه وسلم، والذي قال له عمر رضي الله عنه يوماً: حدثنا عن الفتن التي تموج كموج البحار، فقال: ما لك ولها يا أمير المؤمنين! فإن بينك وبينها باباً، قال: وهل يفتح الباب أم يكسر؟ وهذا من كمال فقه عمر رضي الله عنه قال: بل يكسر، قال: إذاً: لا يقام مرة ثانية.

فإذا كسر الباب عمت الفتنة في هذه الأمة.

والشاهد: أن حذيفة رضي الله عنه قال: لو كان قتل عثمان خيراً لهذه الأمة لحلبت بعده لبناً، يشير بذلك إلى استقرار الأمر في عهده، وشيوع الدين والصلاح في وقته، قال: لو كان في قتل عثمان خير لهذه الأمة لحلبت بعده لبناً، وإن كان في قتل عثمان شر لهذه الأمة لحلبت بعده دماً.

أقول: قد حلبت بعده دماء كثيرة، فما زالت هذه الأمراض تستشري في الذين التزموا بدين الله جل في علاه، والذين زعموا رفع راية الله جل في علاه بدون ضابط أو علم، ولكنه الجهل الذي أوقعهم في ذلك.

وهناك صورة أخرى يحكيها التاريخ لنا: ففي عهد الحجاج بن يوسف الثقفي أظلم الناس وأفسقهم، وقد سطر فيه الإمام الذهبي كلمات من ذهب فيقول فيها: نتقرب إلى الله تعالى ببعض هذا الرجل، فقد بلغ به الجور والظلم مبلغه، حتى إنه أذاق الصحابة في عصره الويلات، فقد قتل ابن عمر رضي الله عنهما، وأهان أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه، ومع ذلك فلم يشق ابن عمر أو أنس عصا الطاعة الواجبة عليهم تجاه ولي أمرهم الحجاج آنذاك، ولم يخرج عليه كذلك من كبار التابعين أحد إلا ابن الأشعث، فقد خرج على الحجاج الظالم ابتغاء صلاح حال الدين والناس، لكن لعدم مراعاة المصالح والمفاسد حدثت الكارثة العظمى، وذلك حين تغلب الحجاج عليهم، وقتل منهم خلقاً لا يحصون، ومنهم سيد التابعين آنذاك سعيد بن جبير؛ ولذلك كان الإمام أحمد بن حنبل يتكلم عن مقتله بأسى ولوعة وحزن! ويقول: قتل ابن جبير والأمة أحوج ما تكون لعلم سعيد بن جبير، وما ذلك إلا بسبب هذه الفتنة الدهماء التي تنشر الفساد المستطير في هذا الأمة.

والحقيقة: أن أصحاب هذه الأفكار الهدامة، والذين لا يفرقون بين المصالح والمفاسد، هم الذين يسرعون بعمل هذه الخروجات، ولم يعلموا أنهم بذلك يخالفون تأصيل النبي صلى الله عليه وسلم الذي أصله من وجوب الطاعة لهم، فقد تجد الواحد من هؤلاء لا يحفظ الفاتحة جيداً، ولا يعرف الفقه، ومع ذلك يتجرأ على التكفير ومن ثم على الخروج على الحكام، فهؤلاء لم يتعلموا ولم يتفقهوا وأرادوا رفعة هذا الدين فأسقطوا كل أهل الدين بسبب فعلتهم.

<<  <  ج: ص:  >  >>