للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الأدلة على أن الدعاء عبادة]

لقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم يقرر بأن الدعاء عبادة، فلا يجوز لأحد أن يدعو غير الله، أو يصرف هذه العبادة لغير الله، فذلك من أفعال الجاهلية، وقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم ليخرج أهل الجاهلية من الجهالة العمياء ومن الظلمات إلى النور، فمن وقع فيها الآن فلا بد من أن نخرجه من هذه الظلمات إلى النور، وذلك كالآتي: أولاً: نثبت له بأن الدعاء عبادة، والأدلة من الكتاب والسنة التي تدل على أن الدعاء عبادة هي: أولاً من الكتاب: قال الله تعالى: {وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [الأعراف:٢٩]، فهذه الآية يستدل بها العلماء على أن الدعاء عبادة، ووجه الدلالة من الآية على أن الدعاء عبادة من ثلاثة أوجه: الأول: أن الله لا يأمر إلا بما يحب، وما يحبه الله يقع تحت مسمى العبادة؛ لأن العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، فإذاً لا يأمر الله إلا بما يحب، فإذا أمر الله بما يحب فأقل ما يقال فيه: إنه على وجه الاستحباب، فهو عبادة.

ثانياً: أنه أمر بالإخلاص فيه، والإخلاص لا بد من أن يكون في العبادات؛ لأن الله جل وعلا قال: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}، فالدعاء إذا أخلص فيه العبد فهو عبادة؛ لأن الأمر بالإخلاص يكون على العبادات.

ثالثاً: أن الله سماه الدين، فكأن الدين كله دعاء، وهذا صحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدعاء هو العبادة).

الآية الثانية: قول الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} [غافر:٦٠]، فجعل الدعاء مكان العبادة، وسمى الدعاء عبادة.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم كما صح عنه في السنن: (الدعاء هو العبادة)، وهذا أسلوب حصر، فكأن العبادة كلها اجتمعت في الدعاء، وهذا صحيح، إذ الدعاء قسمان: دعاء مسألة، ودعاء عبادة وهو الثناء، فدعاء المسألة بجلب نفع أو دفع ضر، ودعاء الثناء: هو العبادات كلها من صيام وصلاة وجهاد وزكاة، فكل هذا يدخل في مسمى دعاء العبادة، وهو الثناء على الله جل في علاه بما هو أهل له، سواء بالذكر بالقلب أو باللسان أو بالجوارح.

فأهل الجاهلية ما حاربهم النبي صلى الله عليه وسلم وجاء يقطع دابرهم، وأشعل نار الحرب بينه وبينهم إلا بسبب هذا الدعاء، فذهب إلى أهل الجاهلية فقال لهم: أنتم تدعون اللات والعزى، وتدعون عيسى، وتدعون عزيراً، وتدعون أناساً خلقهم الله جل في علاه، وتدعون الملائكة والشمس والقمر، وتدعون مخلوقات، وهذا الدعاء عبادة، إذا صرفتموه لغير الله فقد أشركتم، فجاءهم يحاربهم على ذلك، ويقول: لا تدعوا غير الله، فقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص:٥]، ثم قالوا له: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} فهم يذهبون إلى اللات يطلبون منها تفريج الكربات، ويسألونها الحاجات ورفع الزلات، مع إعطاء الحسنات لللات والعزى، ولذلك قال النضر بن الحارث لما استدلوا عليه بأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن هذا كفر، وإن الله أوحى إلى نبيه ألا يدعو أحداً إلا هو، قال: إن هؤلاء شفعاء لنا عند الله أي: إن اللات ستشفع لي عند الله جل في علاه، فصرفوها لغير الله فوقعوا في الشرك.

أما أهل التوحيد -اللهم اجعلنا جميعاً من أهل التوحيد- فقد علموا أن الدعاء عبادة، وأن العبد يتقرب إلى الله بهذه العبادة، فأذلوا أنفسهم لله، وصرفوا هذه العبادة لله، فأصبحوا موحدين؛ ولذلك فإن الله جل في علاه يحب من أهل التوحيد بل ويحب من خاصة أهل التوحيد أن يتذللوا ويتضرعوا بالدعاء له جل في علاه، ليتبين مكمن الإخلاص والتذلل والتضرع في الدعاء لله جل في علاه، كما جاء في الترمذي بسند صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يسأل الله يغضب عليه) أي: أنه يستوجب غضب الله، لعدم التعبد له وتوحيده بهذه العبادة، وهي الدعاء.

وهذا فيه دلالة واضحة جداً على أن العبد إذا صرف هذا الدعاء لله فإنه يكون توحيداً خالصاً متقرباً به إلى الله جل في علاه.

<<  <  ج: ص:  >  >>