ومثل هذا ما روي أن شاباً كان يكثر مجالسة الأحنف ولا يتكلم، فأعجب الأحنف ذلك منه، ثم خلت الحلقة يوماً فقال له الأحنف: يا ابن أخي مالك لا تتكلم؟ فقال: يا عم أرأيت لو أن رجلاً سقط من شرفة هذا المسجد أيضره شيء؟ فقال الأحنف: ليتنا تركناك يا ابن أخي مستوراً ثم أنشد متمثلاً:
وكائن ترى من صامت لك معجب ... زيادته أو نقصه في التكلم
لسان الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤاده ... ولم يبق إلاّ صورة اللحم والدم
وروي عن الجاحظ قال: عبرت على معلم كتّاب فدخلت إليه فرحب بي وأجلسني معه فذاكرته في القرآن فإذا هو ماهرٌ فيه، وكذا في العربية واللغة والشعر كما هو عارف، فقَوي عزمي على تمزيق " دفتر المعلمين " وجعلت أختلف إليه فأتيت يوماً فوجدت الكتاب مغلقاً، فسألت عنه فقيل: مات له ميت، فذهبه لأعزيه، فدققت الباب وخرجت جارية فقال: ما تريد؟ فقلت: أريد مولاك، فقالت: هو جالس وحده في العزاء ما يأذن لأحد فقلت: قولي له: صديقك فلان فدخلت فقالت: ادخل فدخلت فقلت له: أعظم الله أجرك) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ في رَسُولِ اللهِ أسْوَةٌ حَسَنَةٌ (وهذا سبيل لا بد منه، فعليك بالصبر، ثم قلت: هذا الميت ولدك؟ فقال: لا، قلت: والدك؟ قال: لا، قلت أخوك؟ قال: لا، قلت: فمن؟ قال: حبيبتي، فقلت في نفسي: هذا أوان المناحس، ثم قلت: سبحان الله! النساء كثير، وتجد أحسن منها، فقال: وكأني رأيتها فقلت في نفسي: وهذه منحسة ثانية، ثم قلت: وكيف عشقت من لم تره؟ فقال: كنت في الطارمة فسمعت مغنياً يقول:
يا أم عمرو جزاك الله مغفرة ... ردي عليّ فؤادي أينما كانا
" لا تأخذين فؤادي تلعبين به ... فكيف يلعب بالإنسان إنسانا ".
فقلت في نفسي: أولاً أن أم عمرو ما في الدنيا مثلها ما قيل فيها هذا الشعر، فعلقها قلبي، ثم بعد أيام مرّ بي ذلك الرجل " أو غيره " وهو يقول:
إذا ذهب الحمار بأم عمرو ... فلا رجعت ولا رجع الحمار
فعلمت أنها ماتت فحزنت عليها، وجلست للعزاء منذ ثلاثة أيام، قال الجاحظ: فعاد عزمي إلى إبقاء " الدفتر " بأم عمرو.
وعن بعضهم قال: لقيت شيخاً من الأعراب فرجوت أن يكون يقول الشعر أو يرويه فسألته فقال: أما الرواية فلم أسمع من أروي عنه، وأمّا القول فلم أقل قط إلاّ بيتاً واحداً، فقلت: وهذا خير، أروي عنك هذا البيت فتحصل به رواية شعرك فما هو؟ فقال:
سقياً ورعياً وزيتوناً ومغفرة ... قتلتم الشيخ عثمان بن عفان
قال الراوي: فجعلت أتأمله، فقال الشيخ: لعلك تتأمل في فهم معناه " قلت: نعم، قال: أنا قلته منذ سبعين سنة وأنا أفكر في معناه " فما فهمته، فكيف تطمع به أنت في ساعة واحدة.
" وقال أحمد بن عمار: عملت شعراً لا معنى له ولا قافية، وقلت لسعيد بن حميد: رَوِّهِ فلاناً صديقاً لنا من الطالبيين، وكان جلداً شهماً، معه تغفيل، وقل له: ينشده شجاع بن القاسم كاتب المستعين كأنه يمدحه به، وضل له على ذلك صلة وهو:
شجاع لجاع كاتب لاتب معاً ... كجلمود صخر حطه السيل من عل
خبيص لبيص مستمر مقدم ... كثير أثير ذو شمال مهذب
فطين أطين آمر لك زاجراً ... حصيف لصيف حين يجبر يعلم
بليغ لبيغ كلما شئت قلته ... لديه وإن تسكن من القول يسكن
أديب أبيب فيه عقل وحكمة ... عليم بشعري حين أنشد يشهد
كريم أريم قالص متباسل ... إذا جئته قدماً إلى البذل يسمح
فحفظه الطالبي ولقي شجاعاً ونحن نسايره فقال: أعزك الله، ليس الشعر من صناعتي، ولكنك أحسنت إليّ وإلى أهلي، فتكلفت أبياتاً مدحتك بها، فإن رأيت أن تسمعها مني، قال: قد أغناك الله من ذلك بشرفك ومودتك، فقال: بلى تتفضل بسماعها، وأنشده الأبيات، فلما فرغ شكره على ذلك، ودخل إلى المستعين فأخرج له عشرة آلاف درهم، وأجرى له ألف درهم في كل شهر، فجائنا الطالبي شاكراً: أنتما أوصلتما هذا.
وتزوج رجل امرأة حمقاء فغاب عنها مدة فلما قدم وضمها الفراش سألها عما حدث في غيبته فأنشأت تقول:
ما مسّني بعدك من إنسِّي ... غير غلام واحد قيسيِّ
ورجل آخر من بَلِيّ ... وثالث جا من بني عَدِيّ
ورابع أيضاً أتى من طَيّ ... وخمسة جاءوا مع العشيّ
وسبعة كانوا على الطويّ ... غر كرام من بني عليّ