وآخرين معملي المطيّ ... من بين كوفي ومن بصريّ
ومن تهاميّ ومن نجديّ ... ما فيهم من ليس بالمرضيّ
فقام بضربها فصاحت فأجتمع الناس فقال لهم: لولا أني قمت أضربها لعدّتْ عليّ أهلَ عرفات ومنى.
وكان بشار إذا أعوزنه القافية أو المعنى يدخل في شعره أشياء لا حقيقة لها تكميلاً لشعره، فمن ذلك أنه أنشد شعراً فقال فيه:
غنّي للغريض يا ابن قنان
فقيل له: من ابن قنان هذا؟ فإنا لا نعرفه في المغنين، فقال: وما عليكم منه؟ ألكم قِبّلهَ دَينٌ تطالبونه به؟ أو ثأر تريدون أن تدركوه منه؟ أو كفلت لكم به فإذا غاب طلبتموني؟ فقالوا: ليس بيننا وبينه شيء من هذا، ولكنا أردنا أن نعرفه، فقال: هذا رجل يغني لي ولا يخرج من بيتي، فقالوا له: إلى متى؟ فقال من يوم ولد إلى يوم يموت، فتفرقوا عنه متضاحكين.
وقال بعضهم: شربنا يوماً عند عبد الصمد بن علي عم المنصور، وكان يغنينا الدارمي المكي، وكان حلو ظريفاً، فنعس عبد الصمد وعطس الدارمي عطسة هائلة فوثب عبد الصمد مرعوباً وغضب غضباً شديداً وقال: يا ابن الفاعلة، إنما أردت أن تفزعني، قال: لا والله ولكن هذا عطاسي، فقال: والله لأقبنك أو تأتيني ببيِّنة على ذلك، ووكل به غلمانه، فخرج ولا يدري أين يذهب، فلقيه رجل يعرفه من أهل مكة، فسأله عن أمره فأخبره فقال له: أنا أشهد لك، ومضى معه حتى دخل على عبد الصمد فقال له: بم تشهد لهذا؟ فقال: رأيته عطس عطسة سقط منها ضرسه، وتطاير نصف لحيته، فضحك عبد الصمد وقال: خلوا سبيله.
وقال الماوردي: كنت بمجلس درسي بالبصرة فدخل عليّ شيخ مسنّ قد ناهز الثمانين أو جاوزها وقال لي: قصدتك بمسألة اخترتك لها فقلت: وما هي؟ وظننت أنه يسأل عن حادثة نزلت به، فقال: أخبرني عن طالع إبليس وطالع آدم من النجوم ما هو، فان هذين لعظيم شأنهما لا يسأل عنها إلا علماء الدين، فعجبت وعجب من في مجلسي من سؤاله وبادر إليه واحد منهم بالإنكار والاستخفاف، فكففتهم، وقلت: هذا لا يقتنع مع ما ظهر من حاله إلا بجواب مثله، فأقبلت عليه وقلت: يا هذا إن النجمين يزعمون أن نجوم الناس لا تعرف إلاّ بمعرفة مواليدهم، فإن ظفرنا بمن يعرف وقت ميلادهما أخبرناك بالطالع، فقال جزاك الله خيراً، وانصرف مسروراً، فلما كان بعد أيام عاد إلي وقال: ما وجدت إلى وقتي هذا من يعرف مولدهما.
وكان المأمون يوماً جالساً مع ندمائه مشرفاً على دجلة يتذاكرون أخبار الناس، فقال المأمون: ما طالت لحية إنسان إلاّ نقص من عقله بقدر ذلك، فلم يسلم له أصحابه ذلك، فبينما هم في ذلك رأوا رجلاً كبير اللحية حسن الهيئة والثياب، فقال المأمون: عليّ به، فلما وقف بين يديه سلم، فأجلسه المأمون، وقال له: ما أسمك؟ قال: أبو حمدونة، فقال: وما كنيتك؟ قال: علوبة، فضحك المأمون وأقبل على جلسائه فغمزهم عليه، ثم قال: ما صنعتك قال: فقيه أجيد الشرح للمسائل، فقال: نسأل عن مسألة، فقال: سل عما بدا لك، قال: فما تقول فيمن أشترى شاة فلما قبضها خرجت من أستها بعرة فقأت عين رجل، على من تجب دية العين؟ على البائع أم على المشتري؟ فنكت بإصبعه الأرض طويلاً ثم قال: دية العين على البائع قال: ولمَ؟ قال: لأنه باع ولم يشترط أن في أستها منجنيقاً، فضحك المأمون ومن معه، ثم أنشأ يقول:
ما أحد طلت له لحية ... فزادت اللحية في هيئته
إلاّ وما نقص من عقله ... أكثر مما زاد في لحيته
ويؤيد هذا ما روي أن معاوية كان مع أصحابه فمرّ بهم رجل طويل اللحية فقال معاوية: أيكم يحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في طول اللحية، فقال عمرو بن العاصي: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " اعتبروا عقل الرجل في ثلاث: طول لحيته، وكنيته، ونقش خاتمه "، فلما جاءهم الرجل قال معاوية: ما نقش خاتمك:) وَتَفَقّدَ الطّيْرَ فَقَالَ مَالي لا أرَى الهُدْهُدَ (. قال: وما كنيتك؟ قال: أبو الكوكب الدري، فقال معاوية: كمل الرجل، ولهذا قال عليه السلام: " من سعادة المرء خفة لحيته ".
وروي أن أعرابيين اختصما إلى شيخ حيهما، فقال أحدهما للآخر: إنك والله ما تحفظ آية من كتاب الله، فقال الآخر: والله إني لقارئ، فقال له الشيخ: اقرأ علي، فقال كأنه يقرأ:
علق القلب ربابا ... بعدما شابت وشابا