للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقد وصف تعالى موقف القيامة بشدة ذلك كله (١) كما قال تعالى: {أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (٤) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [سورة المطففين: ٤ - ٦]، وقال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (٤٢) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (٤٣)} [سورة إبراهيم: ٤٢ - ٤٣]، وقال تعالى: {إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: ٤]- إلى قوله - {(٩) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (١٢) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (١٣) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (١٤)} [سورة المعارج: ١٠ - ١٤]، وقال تعالى: {النَّاقُورِ (٨) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ} [سورة المدثر: ٩ - ١٠]، وقال تعالى: {وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (٧)} [الإنسان: ٧]- إلى قوله - {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (١٠) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (١١)} [سورة الإنسان: ١٠ - ١١]، وقال تعالى: {إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (٢٧)} [الإنسان: ٢٧]، وفي الصحيح عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «يوم يقوم الناس لرب العالمين، قال: يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه» (٢).

[المبحث الثاني: دنو الشمس من الخلائق]

ومن الإيمان باليوم الآخر أن تؤمن بأن الشمس تدنو من الخلائق بمقدار ميل، والميل يحتمل أن يكون ميل المكحلة، ويحتمل أنه المسافة من الأرض، وسواء كان ميل المكحلة أو ميل المسافة فإن الشمس تكون قريبة من الرؤوس. عن المقداد -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «تُدْنَى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون العرق إلى كعبيه، ومنهم من يكون العرق إلى ركبتيه، ومنهم من يكون العرق إلى حقويه (٣)، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً» (٤).

[المبحث الثالث: محاسبة الخلائق على أعمالهم]

ومما يدخل في الإيمان باليوم الآخر أن تؤمن بأن الخلائق يحاسبون على أعمالهم، وقد سمي الله يوم القيامة يوم الحساب، لأنه اليوم الذي يحاسب الإنسان فيه على عمله.

والحساب حساب فضل وإحسان وكرم بالنسبة للمؤمن؛ فإن الله سبحانه وتعالى يحاسب المؤمن فيخلو به ويضع كنفه عليه -أي ستره- ويقرره بذنوبه فيقول له: عملت كذا في يوم كذا حتى يقر ويعترف، فإذا أقر واعترف قال الله سبحانه وتعالى له: «سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم» (٥).

أما الكفار -والعياذ بالله- فإنهم لا يحاسبون هذا الحساب بل يقررون بأعمالهم ويقول عملتم كذا وكذا فإذا أنكروا تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، حتى الجلود فإنها تشهد فيقولون لجلودهم: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢٢) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٢٣) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (٢٤)} [سورة فصلت: ٢١ - ٢٤]، يقرر الكفار بأعمالهم ويخزون بها وينادي على رؤوس الأشهاد {هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٨)} [هود: ١٨].

وينجو من هذا الحساب عالم لا يحصيه إلا الله قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن أمته عرضت عليه، وإن منهم سبعين ألفاً يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب وهم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون» (٦).


(١) انظر: حافظ الحكمي، معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول، ص (٢/ ٨١٦)، ط. الثالثة، تحقيق: عمر محمود أبو عمر، دار ابن القيم، ١٤١٤ هـ.
(٢) صحيح مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب صفة يوم القيامة، (١٧/ ١٩٥ - مع شرح النووي).
(٣) حقويه: بفتح الحاء وكسرها معقد الإزار، والمراد هنا ما يحاذي ذلك الموضع من جنبه. شرح النووي لصحيح مسلم (١٧/ ١٨٠ - ١٨١).
(٤) صحيح مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب صفة يوم القيامة (١٧/ ١٩٦ - مع شرح النووي).
(٥) صحيح البخاري، كتاب المظالم، باب قوله تعالى: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}، (٥/ ٩٦ – مع الفتح).
(٦) صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب يدخل الجنة سبعون الفاً بغير حساب (١١/ ٤٠٥ - مع الفتح).

<<  <   >  >>