للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[المبحث الثالث: علاقة الإيمان باليوم الآخر بالإيمان بالغيب]

الإيمان باليوم الآخر هو إيمان بالغيب؛ لأن أحداً لم يشهده بنفسه؛ وإنما أخبرنا به الله سبحانه وتعالى عن طريق رسله الكرام، فسبيله هو النقل الصحيح مما جاء في الكتاب والسنة. ولكن الله الذي أخبرنا عن اليوم الآخر وأوجب علينا الإيمان به وجعله ركن من أركان الإيمان قد أودع الفطرة البشرية القدرة على الإيمان بالغيب وميّز الإنسان بهذا الأمر من بين ما ميّزه به وكرمه وفضله.

إن الحيوان يعيش في حدود ما تدركه الحواس فحسب وعالمه محصور في ذلك النطاق.

ولكن الله سبحانه وتعالى كرّم الإنسان فلم يحصره في حدود ما تدركه حواسه فحسب وإنما فسح أفاقه ووسعها ومنحه تلك الخاصية، وهي القدرة على الإيمان بما لا تدركه الحواس، فأصبحت نفسه أرحب وأعمق من الحيوان وأصبحت آفاقه أوسع وأعلى.

والله سبحانه وتعالى كرّم الإنسان وأراد له الرفعة وجعل الإيمان بالغيب أبرز صفات المتقين، قال تعالى: {الم (١) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (٢) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٣)} [سورة البقرة: ١ - ٣].

إن الإيمان باليوم الآخر قائم على الإيمان بالغيب، ولكنه ليس الإيمان الأعمى بغير دليل، فمن صفات "عباد الرحمن": {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (٧٣)} [الفرقان: ٧٣]. إنما هو الإيمان بالحق الذي تدل عليه الدلائل ولو لم تدركه الحواس).

نعم إن الإيمان بالغيب أمر لازم من أجل الإيمان بالله واليوم الآخر ولذلك أبرزه القرآن في مقدمة صفات المؤمنين.

فالله سبحانه وتعالى وصف المؤمنين في مواضع كثيرة من القرآن بأنهم الذين يؤمنون بالغيب، فجعل هذه الصفة قاعدة من قواعد الإيمان الأساسية، قال تعالى: {الم (١) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (٢) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥)} [سورة البقرة: ١ - ٥].

والإيمان بالآخرة كذلك هو إيمان بالغيب، فالساعة بالقياس إلى البشر غيب وما يكون فيها من بعث وحساب وثواب و عقاب كله غيب يؤمن به المؤمن تصديقاً لخبر الله سبحانه.

(إن كثير من أمور الدين وعقائده وأحكامه إنما هي إيمان بالغيب، فالله سبحانه وتعالى بالنسبة لنا غيب، والحياة البرزخية والحياة الآخرة بمقدماتها وبموجوداتها كلها غيب من قيام الساعة إلى البعث والنشور إلى الحساب والميزان وكتابة أعمال الإنسان والصراط والجنة والنار ... الخ، كل هذا غيب يجب الإيمان به.

وما أن يعود الإنسان إلى لحظة من لحظات التأمل الفكري ويقظة الوجدان حتى يجد نفسه يسبح بخياله في عالم الغيب الذي منه خرج أو في عالم الغيب الذي يحيط بجنباته نفسه وبالكون من حوله وبالغيب الذي ينتظره وإليه يصير.

فالغيب يحيط به من كل جانب: في المبدأ، وفي المصير، وفيما بين المبدأ والمصير) (١).


(١) عثمان جمعة ضميريه، عالم الغيب والشهادة في التصور الإسلامي، ط. الأولى، مكتبة السوادي، جدة، ١٤٠٨ هـ.

<<  <   >  >>