للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ومرة أخرى نتساءل: كيف ينسى موسى عليه السلام في هذا الموقف الدقيق العهد على الرغم من استمرار الصحبة، وحصول العلم الراشد الذي يتوقع أن يتعمله منها مبني على عدم الاعتراض والاستفسار؟!

نقول في الجواب كما قلنا في الحكمة في نسيان الحوت، ليعلم الإنسان أن تحصيل أي علم مهما صغر أو كبر، واستمراره وبقاءه مهما طال الوقت أو قصر، مرتبط بمشيئة الله تعالى وإرادته، ولا يمكن أن يحصل شيء من ذلك إلا بتوفيقه ورضاه.

وبعد اعتذار موسى عليه السلام عن نسيانه، وطلبه السماح من صاحبه بالتغاضي عما بدر، وأن لا يحاسبه عليه فيشق عليه الأمر، ويرهق من أمره. انطلقا فمرا على مجموعة من الغلمان يلعبون، فرأى الخضر غلامًا هو أضوؤهم وجهًا وأحسنهم مظهرًا، فتقدم إليه واجتز رأسه فاقتلعه، وأزهق روحه.

لقد كان أمر السفينة إتلافًا ماليًا مباشرًا، وإغراق الركاب بقي في حدود الاحتمال، أما هنا في حادثة الغلام، فإن القتل قد حصل وإن النفس قد أزهقت، والغلام لم يبلغ الحلم ليقال: إنه أخذ بجريرة سابقة -لم يعلمها موسى- حتى لو ارتكب الغلام جريمة قتل قلا قصاص عليه لأن القلم رفع عن الصغير حتى يبلغ، فلا توجد شريعة سماوية تبيح قتل مثل هذه النفس مهما كانت الاحتمالات والتأويلات للأسباب الظاهرة لذا كان انفعال موسى عليه السلام أشد من السابقة، وكان احتجاجه أقوى.

ولئن كانت الأولى نسيانًا، فلا نسيان هنا، وإنما هو العمد والقصد كما قال خاتم النبيين عليه الصلاة والسلام، "فكانت الأولى من موسى نسيانًا، والثانية عمدًا، والثالثة فراقًا" ١. {قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} إنه إنكار معلل، لأن قتل النفس البريئة لا يجوز في أي شريعة ولا تحتمله العقول


١ صحيح البخاري، كتاب التفسير ٥/ ٢٣٣.

<<  <   >  >>