كثيرًا ما تكون الآراء والمواقف النظرية بمنأى عن التطبيق العملي، فكم من طالب علم أخذ دروسًا في علم البيان ومقومات الخطابة وآدابها، فلما تولى إلقاء خطبة في محفل أو على منبر خانته معلوماته وتطايرت الأفكار من ذهنه. وارتجفت منه الأقدام وتلعثمت الشفاه فجاء بها مفككة العبارات ركيكة الجمل.
وكم من باحث تلقى مبادئ الكتابة والتأليف وطريقة جمع المادة العملية وترتيبها والتوثيق من المراجع العلمية وتخريج الأحاديث النبوية من مظانها، بل قد ينتقد الآخرين لعدم التزامهم بالمنهج العلمي في ذلك، فلما كلف بكتابه مقالة أو بحث انهارت الأسس التي كان يبني عليها آراءه ونقده، ويشهد ميلاد بحث لا يطلق عليه اسم التأليف إلا تجوزًا.
وهكذا في الحياة العملية، فالتاجر الذي يأخذ معلوماته وخبرته من كتب علم التجارة يصطدم بعقبات قد تودي بثروته عند النزول إلى الأسواق.
والجندي الذي يأخذ ثقافته العسكرية عن السلاح واستخدامه في الكلية النظرية قد يدفع حياته أو حياة زملائه ثمنًا للتجربة الأولى على السلاح.
ومن هذا القبيل ما جرى لموسى عليه السلام، فقد قطع على نفسه العهد بأن لا يسأل -وبالأولى أن لا يعترض- حتى يكون الرجل الصالح هو البادئ بالشرح والبيان ولكنه عندما خرج إلى التجربة العملية، ورأى أمام عينه هذا التخريب والإفساد -حسب الظاهر- نسي وعده واستنكر.
يقول سيد قطب -رحمه الله: "لقد نسي موسى ما قاله هو، وما قاله صاحبه أمام هذا التصرف العجيب الذي لا مبرر له في نظر المنطق العقلي، والإنسان قد يتصور المعنى الكلي المجرد، ولكنه عندما يصطدم بالتطبيق العملي لهذا المعنى، والنموذج الواقعي منه يستشعر له وقعًا غير التصور المجرد، وها هو ذا موسى الذي نبه من قبل أنه لا يستطيع صبرًا على ما لم يحط به خبرًا، فاعتزم الصبر واستعان بالمشيئة وبذل الوعد وقبل الشرط، ها هو ذا يصطدم بالتجربة العملية لتصرفات هذا