للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

السليمة، وبعد سفك دم، بدون وجه حق، وهو من الإفساد في الأرض عند جميع العقلاء.

وإلى جانب تذكير الخضر له بعهده ووعده، يقابل شدة موسى بشدة مثلها واحتجاجه المعلل بصرامة وعنف. {أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} ألم أقل لك أنت بالذات يا موسى، وليس لغيرك، مع ذلك تعترض علي المرة تلو الأخرى.

وعاد إلى نفس موسى عليه السلام هدوءها مرة أخرى، وتذكر أن المقاييس التي يحتكم إليها الرجل الصالح غير المقاييس الظاهرة التي ينطلق منها موسى عليه السلام وأنه ينظر من أفق غير الأفق الذي ينظر منه موسى، وتذكر أنه قال له في بداية الرحلة: "إني على علم من الله علمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه"١.

عندئذ حصلت القناعة التامة لموسى عليه السلام أن لا مجال للوصول إلى هذا العلم إلا بما يهيئه الله سبحانه وتعالى للعبد، وأن الطريق الكسبي إلى أسسه وقواعده المطردة مسدودة، وأن النماذج التي رآها -وإن لم يعلم تأويلها وحقائقها بعد- كافية لإعطائه أمثلة صالحة من هذه العلوم التي استأثر الله بعلمها {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: ٣٤] .

عند ذلك قال له موسى: {إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} .

"رحمة الله علينا وعلى موسى، لو صبر على صاحبه لرأى العجب، ولكن أخذته ذمامة ٢، فقال ذلك"، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورغب موسى عليه السلام في الفراق لا رغبته عن الصحبة، وإنما أخذه الحياء من تصرفاته مع الرجل


١ المرجع السابق.
٢ الذماء: الحياء. وانظر المرجع السابق.

<<  <   >  >>