الْمِثَالُ الْخَامِسَ عَشَرَ: إذَا اجْتَمَعَ مُضْطَرَّانِ فَإِنْ كَانَ مَعَهُ مَا يَدْفَعُ ضَرُورَتَهُمَا لَزِمَهُ الْجَمْعُ بَيْنَ الضَّرُورَتَيْنِ تَحْصِيلًا لِلْمَصْلَحَتَيْنِ، وَإِنْ وَجَدَ مَا يَكْفِي ضَرُورَةَ أَحَدِهِمَا، فَإِنْ تَسَاوَيَا فِي الضَّرُورَةِ وَالْقَرَابَةِ وَالْجِوَارِ وَالصَّلَاحِ اُحْتُمِلَ أَنْ يَتَخَيَّرَ بَيْنَهُمَا، وَاحْتُمِلَ أَنْ يُقَسِّمَهُ عَلَيْهِمَا، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ وَالِدًا أَوْ وَالِدَةً، أَوْ قَرِيبًا أَوْ زَوْجَةً، أَوْ وَلِيًّا مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ إمَامًا مُقْسِطًا أَوْ حَاكِمًا عَدْلًا، قُدِّمَ الْفَاضِلُ عَلَى الْمَفْضُولِ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَصَالِحِ الظَّاهِرَةِ، فَإِنْ قِيلَ لَوْ وَجَدَ الْمُكَلَّفُ مُضْطَرَّيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ وَمَعَهُ رَغِيفٌ لَوْ أَطْعَمَهُ لِأَحَدِهِمَا لَعَاشَ يَوْمًا وَلَوْ أَطْعَمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَهُ لَعَاشَ نِصْفَ يَوْمٍ، فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُطْعِمَهُ أَحَدَهُمَا أَمْ يَجِبُ فَضُّهُ عَلَيْهَا، فَالْمُخْتَارُ أَنَّ تَخْصِيصَ أَحَدِهِمَا غَيْرُ جَائِزٍ لِمَا ذَكَرْتُهُ مِنْ أَنَّ أَحَدَهُمَا قَدْ يَكُونُ وَلِيًّا لِلَّهِ تَعَالَى، وَلِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَمَرَ بِالْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ، وَالْعَدْلُ التَّسْوِيَةُ، فَدَفْعُهُ إلَيْهِمَا عَدْلٌ وَإِنْصَافٌ وَإِحْسَانٌ مُنْدَرِجٌ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل: ٩٠] .
وَكَذَلِكَ لَوْ وَجَدَ مُحْتَاجَيْنِ فَإِنَّهُ يُنْدَبُ إلَى فَضِّ الرَّغِيفِ عَلَيْهِمَا، وَأَلَّا يَخُصَّ أَحَدَهُمَا بِهِ لِمَا ذَكَرْتُهُ، وَلِأَنَّ تَخْصِيصَ أَحَدِهِمَا مُوغِرٌ لِصَدْرِ الْآخَرِ مُؤْذٍ لَهُ.
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ لَهُ وَلَدَانِ لَا يَقْدِرُ إلَّا عَلَى قُوتِ أَحَدِهِمَا فَإِنَّهُ يَفُضُّهُ عَلَيْهِمَا تَسْوِيَةً بَيْنَهُمَا، فَإِنْ قِيلَ إذَا كَانَ نِصْفُ الرَّغِيفِ شِبَعًا لِأَحَدِ وَلَدَيْهِ سَادًّا لِنِصْفِ جَوْعَةِ الْآخَرِ فَكَيْفَ يَفُضُّهُ عَلَيْهِمَا؟ قُلْت يَفُضُّهُ عَلَيْهِمَا بِحَيْثُ يَسُدُّ مِنْ جَوْعَةِ أَحَدِهِمَا مَا يَسُدُّ مِنْ جَوْعَةِ الْآخَرِ، فَإِذَا كَانَ ثُلُثُ الرَّغِيفِ سَادًّا لِنِصْفِ جَوْعَةِ أَحَدِهِمَا، وَثُلُثَاهُ سَادًّا لِنِصْفِ جَوْعَةِ الْآخَرِ فَلْيُوَزِّعْهُ عَلَيْهِمَا كَذَلِكَ، لِأَنَّ هَذَا هُوَ الْإِنْصَافُ، كَمَا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ مَعَ الْقُدْرَةِ إشْبَاعُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعَ اخْتِلَافِ مِقْدَارِ كِلَيْهِمَا، فَكَذَلِكَ هَذَا، لِأَنَّ الْغَرَضَ الْأَعْظَمَ إنَّمَا هُوَ كِفَايَةُ الْبَدَنِ فِي التَّغْذِيَةِ.
وَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يُطْعِمَ الْكَبِيرَ الرَّغِيبَ أَكْثَرَ مِمَّا يُطْعِمُ الصَّغِيرَ الزَّهِيدَ، وَلِمِثْلِ هَذَا يُعْطَى الرَّاجِلُ سَهْمًا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute