وَالْحَاصِلُ بِأَنَّ الثَّوَابَ يَتَرَتَّبُ عَلَى تَفَاوُتِ الرُّتَبِ فِي الشَّرَفِ، فَإِنْ تَسَاوَى الْعَمَلَانِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَانَ أَكْثَرُ الثَّوَابِ عَلَى أَكْثَرِهِمَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: ٧] .
[فَصْلٌ فِيمَا يَتَفَاوَتُ أَجْرُهُ بِتَفَاوُتِ تَحَمُّلِ مَشَقَّتِهِ]
إنْ قِيلَ: مَا ضَابِطُ الْفِعْلِ الشَّاقِّ الَّذِي يُؤْجَرُ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِمَّا يُؤْجَرُ عَلَى الْخَفِيفِ؟ قُلْت: إذَا اتَّحَدَ الْفِعْلَانِ فِي الشَّرَفِ وَالشَّرَائِطِ وَالسُّنَنِ وَالْأَرْكَانِ، وَكَانَ أَحَدُهُمَا شَاقًّا فَقَدْ اسْتَوَيَا فِي أَجْرِهِمَا لِتَسَاوِيهِمَا فِي جَمِيعِ الْوَظَائِفِ، وَانْفَرَدَ أَحَدُهُمَا بِتَحَمُّلِ الْمَشَقَّةِ لِأَجْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَأُثِيبَ عَلَى تَحَمُّلِ الْمَشَقَّةِ لَا عَلَى عَيْنِ الْمَشَاقِّ، إذْ لَا يَصِحُّ التَّقَرُّبُ بِالْمَشَاقِّ، لِأَنَّ الْقُرَبَ كُلَّهَا تَعْظِيمٌ لِلرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَلَيْسَ عَيْنُ الْمَشَاقِّ تَعْظِيمًا وَلَا تَوْقِيرًا.
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ مَنْ تَحَمَّلَ مَشَقَّةً فِي خِدْمَةِ إنْسَانٍ فَإِنَّهُ يَرَى ذَلِكَ لَا لِأَجْلِ كَوْنِهِ شَقَّ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يَرَاهُ لَهُ بِسَبَبِ تَحَمُّلِ مَشَقَّةِ الْخِدْمَةِ لِأَجْلِهِ، وَذَلِكَ كَالِاغْتِسَالِ فِي الصَّيْفِ وَالرَّبِيعِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الِاغْتِسَالِ فِي شِدَّةِ بَرْدِ الشِّتَاءِ؛ فَإِنَّ أَجْرَهُمَا سَوَاءٌ لِتَسَاوِيهِمَا فِي الشَّرَائِطِ وَالسُّنَنِ وَالْأَرْكَانِ، وَيَزِيدُ أَجْرُ الِاغْتِسَالِ فِي الشِّتَاءِ لِأَجْلِ تَحَمُّلِ مَشَقَّةِ الْبَرْدِ، فَلَيْسَ التَّفَاوُتُ فِي نَفْسِ الْغُسْلَيْنِ وَإِنَّمَا التَّفَاوُتُ فِيمَا لَزِمَ عَنْهُمَا.
وَكَذَلِكَ مَشَاقُّ الْوَسَائِلِ فِي مَنْ يَقْصِدُ الْمَسَاجِدَ وَالْحَجَّ وَالْغَزْوَ مِنْ مَسَافَةٍ قَرِيبَةٍ، وَآخَرَ يَقْصِدُ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ مِنْ مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ، فَإِنَّ ثَوَابَيْهِمَا يَتَفَاوَتَانِ بِتَفَاوُتِ الْوَسِيلَةِ، وَيَتَسَاوَيَانِ مِنْ جِهَةِ الْقِيَامِ بِسُنَنِ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ وَشَرَائِطِهَا وَأَرْكَانِهَا. فَإِنَّ الشَّرْعَ يُثِيبُ عَلَى الْوَسَائِلِ إلَى الطَّاعَاتِ كَمَا يُثِيبُ عَلَى الْمَقَاصِدِ، مَعَ تَفَاوُتِ أُجُورِ الْوَسَائِلِ وَالْمَقَاصِدِ.
وَكَذَلِكَ جَعَلَ لِكُلِّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute