ثُمَّ الْمَفَاسِدُ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ: أَحَدُهَا أُخْرَوِيَّةٌ وَهِيَ مُتَوَقَّعَةُ الْحُصُولِ لَا يُقْطَعُ بِتَحَقُّقِهَا لِأَنَّهَا قَدْ تَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ أَوْ الْعَفْوِ أَوْ الشَّفَاعَةِ أَوْ الْمُوَازَنَةِ.
الضَّرْبُ الثَّانِي: دُنْيَوِيَّةٌ وَهِيَ قِسْمَانِ:
أَحَدُهُمَا: نَاجِزُ الْحُصُولِ كَالْكُفْرِ وَالْجَهْلِ الْوَاجِبِ الْإِزَالَةُ، وَكَالْجَوْعِ وَالظَّمَأِ وَالْعُرْيِ وَضَرَرِ الصِّيَالِ وَالْقِتَالِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: مُتَوَقَّعُ الْحُصُولِ كَقِتَالِ مَنْ يَقْصِدُنَا مِنْ الْكُفَّارِ وَالْبُغَاةِ وَأَهْلِ الصِّيَالِ.
الضَّرْبُ الثَّالِثُ: مَا يَكُونُ لَهُ مَفْسَدَتَانِ: إحْدَاهُمَا عَاجِلَةٌ وَالْأُخْرَى آجِلَةٌ، كَالْكُفْرِ، فَالْعَاجِلَةُ نَاجِزَةُ الْحُصُولِ وَالْآجِلَةُ مُتَوَقَّعَةُ الْحُصُولِ.
وَأَمَّا مَا يَكُونُ مَفْسَدَتُهُ عَاجِلَةً وَمَصْلَحَتُهُ آجِلَةً فَكَالصِّيَالِ عَلَى الدِّمَاءِ وَالْأَبْضَاعِ وَالْأَمْوَالِ، فَإِنَّ دَرْءَ مَفْسَدَتِهِ عَاجِلٌ حَاصِلٌ لِمَنْ دُرِئَتْ عَنْهُ، وَمَصْلَحَةُ دَرْئِهِ آجِلَةٌ لِمَنْ دَرَأَهُ.
[فَائِدَةٌ إذَا عَظُمَتْ الْمَصْلَحَةُ أَوْجَبَهَا الرَّبُّ فِي كُلِّ شَرِيعَةٍ]
وَكَذَلِكَ إذَا عَظُمَتْ الْمَفْسَدَةُ، حَرَّمَهَا فِي كُلِّ شَرِيعَةٍ، وَإِنْ تَفَاوَتَتْ رُتَبُ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ فَقَدْ يُقَدِّمُ الشَّرْعُ بَعْضَ الْمَصَالِحِ فِي بَعْضِ الشَّرَائِعِ عَلَى غَيْرِهَا، وَيُخَالِفُ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الشَّرَائِعِ.
وَكَذَلِكَ الْمَفَاسِدُ، فَالْقِصَاصُ فِي شَرِيعَةِ مُوسَى وَاجِبٌ حَقًّا لِلَّهِ كَمَا فِي حَدِّ السَّرِقَةِ وَالزِّنَا، وَهُوَ عِنْدَنَا حَقٌّ لِلْعَبْدِ مُقْتَرِنٌ بِحَقِّ الرَّبِّ، وَرُجِّحَ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ عَلَى حَقِّ الرَّبِّ فِي شَرْعِنَا نَظَرًا لِلْجَانِي وَلِوَلِيِّ الدَّمِ.
وَكَذَلِكَ حَرُمَ فِي النِّكَاحِ الزِّيَادَةُ عَلَى امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ فِي شَرْعِ عِيسَى نَظَرًا لِلنِّسَاءِ وَكِيلَا يَتَضَرَّرْنَ بِكَثْرَةِ الضَّرَائِرِ وَالْإِمَاءِ، وَأَجَازَهُ مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ فِي شَرِيعَةِ مُوسَى لِمَنْ قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ بِالْوَطْءِ وَمُؤَنِ النِّكَاحِ، وَأَجَازَ فِي شَرْعِنَا الزِّيَادَةَ عَلَى وَاحِدَةٍ نَظَرًا لِلرِّجَالِ وَحَرَّمَ الزِّيَادَةَ عَلَى الْأَرْبَعِ نَظَرًا لِلنِّسَاءِ وَرَحْمَةً بِهِنَّ، وَوَطْءُ الْإِمَاءِ مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ نَظَرًا لِلرِّجَالِ.
[فَصْلٌ فِي تَفَاوُتِ الْأَعْمَالِ مَعَ تَسَاوِيهَا بِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ وَالْأَزْمَانِ]
فِي تَفَاوُتِ الْأَعْمَالِ مَعَ تَسَاوِيهَا بِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ وَالْأَزْمَانِ اعْلَمْ أَنَّ الْأَمَاكِنَ وَالْأَزْمَانَ كُلَّهَا مُتَسَاوِيَةٌ، وَيَفْضُلَانِ بِمَا يَقَعُ فِيهِمَا لَا بِصِفَاتٍ قَائِمَةٍ بِهِمَا، وَيَرْجِعُ تَفْضِيلُهُمَا إلَى مَا يُنِيلُ اللَّهُ الْعِبَادَ فِيهِمَا مِنْ فَضْلِهِ وَكَرَمِهِ