سُبحانَه هذه العَقيدةَ الجاهلية بقولهِ تَعالى في آخر سورة [الأنعام: ١٤٨-١٤٩] : {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ - قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: ١٤٨ - ١٤٩] تَفسيرُ هذه الآية: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) : حِكاية لفَنٍّ آخَرَ مِن أباطيلِهم. {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا} [الأنعام: ١٤٨] لَمْ يُريدوا بِهذا الكَلامِ الاعتذار عَنِ ارْتكابِ القَبيحِ، إذْ لم يَعْتقِدوا قُبحَ أفعالِهم، بل هُم كما نَطَقَتْ بِهِ الآيات يحسَبُونَ أَنهَّمُ يحسِنوُنَ صُنعًا، وأنهم إنَّما يَعْبُدونَ الأصنامَ لِيُقَرِّبوهُم إلى الله زلْفى، وأنَّ التَّحريمَ إنما كانَ مِن الله عز وجل، فَما مرادهُم بذلِكَ إلا الاحتجاجُ على أنَّ ما ارْتكَبوهُ حَقٌّ ومَشروع وَمرضيٌّ عند الله تَعالى على أنَّ المشيئةَ والإِرادةَ تُساوي الأمرَ، وتَسْتَلْزِمُ الرِّضى، كما زَعَمَتِ المُعْتَزِلَةُ، فَيَكونُ حاصِلُ كلامِهِم أنَّ ما نَرتكِبُهُ مِنَ الشِّركِ والتَّحريمِ وغيرِهما تَعَلَّقَتْ بهِ مَشيئَة الله تعالى وإرادَتُه، وكل ما تَعَلَّقَتْ بهِ مَشيئَته سبحانه وإرادَتُه فَهو مَشروعٌ ومَرْضِيٌّ عندَ الله تَعالى.
وبَعْدَ أنْ حَكى سُبحانهُ وَتَعالى ذلِكَ عَنهم، رَدَّ عَلَيْهِم بِقولِهِ عَزَّ مِنْ قائِلٍ {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الأنعام: ١٤٨] وهم أسلافُهُم المُشرِكونَ. وحاصِلُهُ أنَّ كلامَهم يَتَضَمَّنُ تكذيبَ الرُّسُلِ عليهم السلام، وَقَدْ دَلَّتِ المُعْجِزَةُ على صِدْقِهِم.
أو نَقولُ حاصِلُهُ أنَّ ما شاءَ الله يَجِبُ، وما لم يَشَأْ يَمْتَنعُ، وكلُّ ما هذا شأنُه فلا تكليفَ بِهِ لِكونهِ مَشروطًا بالاسْتِطاعة، فَيَنْتُجُ أنَّ ما ارْتكَبَهُ مِن الشِّركِ وغيرِهِ، لَم يتكَلَّفْ بِتَرْكِهِ ولمْ يُبْعَثْ لَهُ نَبِيّ. فَرَدَّ الله تَعالى عَلَيهم بأنَّ هَذِهِ كَلِمَةُ صِدْقٍ أُريدَ بِها باطِلٌ، لأنَّهم أرادوا بِها أن الرُّسُلَ عليهم السلام في دَعْواهُمُ البِعْثةً والتكليفَ كاذِبونَ. وَقَدْ ثَبَتَ صِدْقُهُم بِالدَّلائِلِ القَطْعِيّةِ، ولِكَوْنهِ صِدْقًا أُريدَ بِهِ باطِلٌ، ذَمَّهُمُ الله تَعالى بِالتكْذيبِ. وَوجوبُ وُقوعِ مُتَعَلَّقِ المَشيئَةِ لا يُنافِي صِدقَ دَعْوى البِعثةِ والتكليفِ؛ لأنَّهما لإِظهارِ المَحَجَّةِ وإبلاغ الحُجَّةِ {حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا} [الأنعام: ١٤٨] أي نالوا عَذابَنا الذي أنْزَلْناهُ عَلَيْهم بتكْذيبهم،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute