للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وفيه إيماءٌ إلى أنَّ لهم عَذابًا مُدَّخَرًا عِندَ الله تَعالى؛ لأنَّ الذَّوقَ أوَّلُ إدْراكَ الشَّيْءِ {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} [الأنعام: ١٤٨] أي هلْ لَكُمْ مِنْ عِلمٍ بأنّ الإِشراكَ وسائِرَ ما أنتُم عَلَيه مَرْضيٌّ عند الِلَّهِ تَعالى فَتُظْهروهُ لَنَا بِالبُرْهانِ؟ وهذا دَليلٌ على أنَّ المُشرِكينَ أُمَم اسْتَوجَبوا التَّوبيخَ على قولهم ذلك؛ لأنَّهَم كانوا يَهْزَءونَ بالدِّين، ويَبْغونَ رَدَّ دَعْوةِ الأنبياء عليهم السلام، حَيثُ قرع مسامعهم من شَرائِعِ الرسُلِ عليهم السلام تَفْويضُ الأمورِ إلَيْهِ سُبحانَهُ وَتَعالى، فَحينَ طالبوهُم بالإِسلامِ، والتِزام الأحكامِ، احْتَجُّوا عَلَيْهِم بِما أخَذوه مِن كَلامِهم مُسْتَهْزِئينَ بِهم عليهم الصلاة والسَّلامُ، ولم يَكُنْ غَرَضُهُمْ ذِكْرَ ما يَنْطَوي عَلَيْهِ عِقْدُهُم، كَيفَ لا والإِيمانُ بصفاتِ الله تَعالى فَرْعُ الإِيمانِ بِهِ عَزَّ شَأْنُهُ وَهُوَ عَنهم مناطُ العَيُّوق.

{إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [الأنعام: ١٤٨] أيْ تكْذِبونَ على الله تَعالى {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام: ١٤٩] أي البينَةُ الواضِحَةُ التي بَلَغَتْ غايَةَ المَتانَةِ والقُوَّةِ على الإِثباتِ، والمُرادُ بِها في المَشهورِ: الكتابُ والرَّسولُ والبَيانُ. {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: ١٤٩] بِالتَّوفيقِ لَها، والحَمْلِ عَليها، وَلَكِنْ شاءَ هِدايَةَ البَعْضِ الصَّارِفينَ اختِيارَهُم إلى سُلوكِ طَريقِ الحَقِّ، وضَلالَ آخَرينَ صَرَفوه إلى خِلافِ ذَلِكَ. ومِنَ النَّاسِ مَنْ ذَكَرَ وَجْهًا آخَرَ في توجيهِ ما في الآية، وهو أنَّ الرَّدَّ عَليهم إنَّما كانَ لاعْتِقادِهِم أنَّهم مُسَلِّمونَ اختِيارَهم وقُدْرتهم، وأنَّ إشراكَهم إنَّما صَدَرَ مِنهم على وجْهِ الاضْطرارِ وَزَعَموا أنَّهم يُقيمونَ الحُجَّةَ على الله تَعالى ورسوله عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بِذَلِكَ، فَرَدَّ الله تَعالى قَولَهم في دَعْواهُم عَدَم الاخْتيارِ لأنفسِهِم، وَشَبَّهَهُمْ بِمَنِ اغْتَرَّ قَبْلَهُم بِهذا الخَيال، فَكَذَّبَ الرُّسُلَ، وَأشْرَكَ بِاللهِ عز وجل، واعْتَمَدَ على أنَّه إنَّما يَفْعَلُ ذَلِكَ بِمَشِيْئَةِ اللهِ تَعالى وَرامَ إفْحامَ الرُّسُلِ بِهذِهِ الشُّبْهَةِ، ثُمَّ بَيَّنَ سُبْحانَهُ أنَّهم لا حُجَّةَ لَهم في ذَلِكَ، وأنَّ الحُجَّةَ البالِغَةَ لَه تَعالى لا لَهم، ثُمَّ أوْضَحَ سُبحانَه أنَّ كُلَّ واقعٍ واقع بِمشيْئَتِهِ، وأنَّه لم يَشَأْ مِنهمْ إلاَ ما صدَرَ عَنهم، وأنِّه تَعالى لَو شاءَ مِنهمُ الهدايةَ لاهْتَدَوا أجْمَعينَ. والمقصودُ أنْ يَتَمَحَّضَ وجهُ الرَّدِّ عَليهم، وَتَتَخَلَّصَ عَقيدةُ نُفوذِ السنة وعموم تغلغلها بكُلِّ

<<  <  ج: ص:  >  >>