كائن عنِ الرَّدِّ، ويَنْصَرِفَ الرَّدُّ إلى دَعواهُم سَلْبَ الاخْتيار لأنفُسهم، وأنّ إقامتهم الحجة بِذلِكَ خاصَّة. وإِذا تَدَبَّرْتَ الآية وَجَدْتَ صَدرَها دَافِعًا لِصُدورِ الجَبْرِية، وعَجُزَها مُعْجزًا للمُعْتزلة، إِذِ الأوَّلُ مُثبتٌ أنَّ لِلْعَبْدِ اختيارًا وقُدْرةً على وجْهٍ يَقْطعُ حُجَّتَه وعُذْرَهُ في المُخالَفَةِ والعِصْيانِ، والثَّاني مُثِبتٌ نُفوذَ مَشيئَةِ الله تَعالى في العبدِ، وأنَّ جَميعَ أفعالِه على وَفْقِ المَشيئة الإِلهيةِ، وبذلكَ تَقومُ الحُجَّةُ البالغة لأهلِ السُّنَّةِ على المُعتزلةِ، والحمدُ لِلَّهِ ربِّ العالَمِينَ. ومِنهم مَن وجَّهَ الآية بأنَّ مرادَهم رَدُّ دعوةِ الأنبياء عليهم السلام على مَعنى أنَّ الله تَعالى شاءَ شِرْكَنا، وَأرادَهُ مِنَّا، وَأنْتُم تُخالِفونَ إرادَتَه، حَيثُ تَدعونا إلى الإِيمانِ، فَوَبَّخَهُم سُبحانَه وَتَعالى بوُجوه عِدَّة: منها قولُه سُبحانَه: {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام: ١٤٩] فإنه بتقدير الشَّرطِ، أي إذا كانَ الأمرُ كما زَعَمْتُم {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام: ١٤٩]
وقولُه سُبحانَه: {فَلَوْ شَاءَ} [الأنعام: ١٤٩] بَدَل منه على سَبيلِ البَيانِ، أي لَو شاءَ لَدَلَّ كُلاًّ منكم ومِنْ مُخالِفيكم على دينه، لَو كانَ الأمرُ كَما تَزْعُمونَ، لَكان الإِسلامُ أيْضًا بِالمشيئةِ، فَيَجِبُ أنْ لا تَمْنَعوا المُسلِمينَ من الإِسلامِ، كما وَجَبَ بِزعمكم ألا يمنَعَكُم الأنبياءُ عن الشِّركِ. فَيَلْزَمُكُم أنْ لا يكونَ بَيْنَكم وبَيْنَ المُسْلِمينَ مُخالَفَة ومُعاداةٌ، بَلْ موافَقَة وموالاة. وحاصِلُه أنَّ ما خالَفَ مَذْهَبَكم منَ النِّحَلِ يَجِبُ أنْ يَكونَ عِندكم حَقًّا؛ لأنه بِمشيئة الله تَعالى، فَيَلْزَمُ تَصحيحُ الأديانِ المُتناقِضَة.
وَفِي سورةِ [النَّحْل: ٣٥] {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النحل: ٣٥] الكلامُ عَلى هذه الآية كالكَلام على الآية السَّابقةِ، وَلا تَراهُمْ يَتَشَبَّثونَ بِالمشيئةِ إلا عِنْدَ انخِذالِ الحُجَّةِ. ألا تَرَى كيفَ خَتَمَ بِنَحوِ آخر مجادلاتهم في سورة الأنعام في الآية السابقة، وكذلك في سورة [الزخرف: ١٩-٢٢] : وهو قولُه تَعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ - وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ - أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ - بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: ١٩ - ٢٢] ويكفي في الانقلاب ما
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute