للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يشير إليه قوله سبحانه: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} [الأنعام: ١٤٩] والمُرادُ بِما حَرَّموهُ السَّوائِبُ والبَحائرُ وغَيْرُها. وَفِي تَخْصيصِ الاشْتِراكِ والتَّحْريمِ بالنَّفي؛ لأنَّهُما أعْظَمُ وأشْهَرُ ما هُمْ عَلَيْهِ. وَغَرَضُهُم مِنْ ذَلِكَ تكْذيبُ الرَّسولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ والطَّعْنُ في الرِّسالةِ رَأْسًا، فَإِنَّ حاصِلَهُ أيْ ما شاءَ الله يَجِبُ، وما لمْ يَشَأْ يَمْتَنعُ، فَلَوْ أنَّهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى شاءَ أنْ نُوَحِّدَهُ، وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئا، وَنُحَلِّلَ ما أحَلَّهُ، ولا نُحَرِّمَ شَيْئا مِمَّا حَرَّمْنا كَما تَقولُ الرُّسُلُ وَيَنْقُلونَه مِنْ جِهَتِهِ تَعالى لَكانَ الأمرُ كَما شاءَ مِنَ التَّوحيدِ ونَفْي الإِشراكِ، وَتَحْليلِ ما أحَلَّهُ، وَعَدَمِ تَحْريمِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَحَيْثُ لَم يَكُنْ كَذلِكَ، ثَبَتَ أنه لَم يَشَأْ شَيْئًا مِن ذَلِكَ بَلْ شاءَ ما نحنُ عَلَيْهِ.

وتَحَقَّقَ أنَّ ما يَقولُهُ الرُّسُلُ عليهم السلام مِن تِلْقاءِ أنْفُسِهِمْ. فَرَدَّ الله تَعَالى عَلَيْهِمْ بِقَوْلهِ {كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النحل: ٣٣] مِن الأمَمِ، أيْ: أشْرَكوا بِاللهِ تَعالى، وَحَرَّموا مِنْ دونِهِ ما حَرَّموا، وجادَلُوا رُسُلَهُمْ بِالباطِلِ لِيُدْحضوا بِهِ الحَقَّ {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النحل: ٣٥] أيْ: ليستْ وَظيفَتُهُمْ إلا البَلاغِ للرِّسالَةِ، المُوَضِّحَ طَريق الحَق والمُظْهر أحْكامَ الوحْيِ التي مِنها تَعَلُّقُ مَشيْئَتِهِ تَعالى باهْتِداءِ مَنْ صرَفَ قُدْرتَهُ واخْتِيارَهُ إلى تَحْصَيلِ الحَقِّ؛ لقولهِ تَعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: ٦٩] وأمَّا إلْجاؤهمْ إلى ذَلِكَ، وتنفيذُ قَوْلهم عليهِ شاءوا أوْ أبَوْا كما هو مُقْتَضى اسْتِدْلالِهم فليسَ ذَلِكَ مِن وَظيفَتِهم، ولا مِن الحِكْمَةِ التي يَتوَقَّفُ عَلَيْها التكليفُ، حَتّىَ يُسْتَدَلَّ بعدمِ ظُهورِ آثارِهِ على عدمِ حَقيقةِ الرسلِ عليهم السلام أو على عدمِ تَعَلُّقِ مَشَيْئَتِهِ تَعالى بذَلِكَ، فإِنَّ ما يَتَرَتَّبُ عليه الثوَّابُ والعِقابُ مِن الأفْعالِ لا بُدَّ في تَعَلُّقِ مَشيئتِهِ تَعالى بِوقوعِهِ مِن مُباشَرَتِهم الاخْتِيارِيّة، وَصَرْفِ اخْتِيارِهِم الجُزْئِيِّ إلى تَحْصيلِهِ، وإلا لَكانَ الثوَّابُ والعِقابُ اضطِرارِيينِ، والكلامُ على هذهِ الآية ونحوِها مُسْتوفىً في تفسير (رُوحِ المعاني) وغيرهِ. فجُحودُ القَدَرِ والاحتجاجُ بِه على الله ومُعارَضَةُ شرع الله بِقَدَرِهِ، كُلُّ ذَلِكَ مِن ضلالاتِ الجاهِلِيَّةِ.

والمَقْصودُ أنَّهُ لا جَبْرَ وَلا تَفْويضَ، ولكنْ أمْر بَيْنَ أمْرَيْنِ، فمَنْ زَلَّتْ قَدَمُهُ عَنْ هَذِهِ الجادَّةِ كانَ على ما كانَ عليهِ أهلُ الجاهِلِيَّةِ، وهِيَ الطَّريقَةُ التي رَدَّ عَلَيْهَا الله سبحانَه ورَسُولهُ صلى الله عليه وسلم.

<<  <  ج: ص:  >  >>