المؤلفة في هذا الشأن، ومراجعة الشيوخ الذين حازوا قصب السبق في مضماره، ومباحثه الحذاق الذين غاصوا على جواهر الفرائد في بحاره، ولم أتحاش عن الإعادة في الإفادة عند الحاجة إلى البيان، ولا في ضبط الواضح عند علماء هذا الشأن، قصدًا لنفع الخاص والعام، راجيًا ثواب ذي الطول والإنعام، فدونك شرحًا قد أشرقت عليه من شرفات هذا الجامع أضواء نوره اللامع وصدع خطيبه على منبره السامي بالحجج القواطع، أضاءت مهجته فاختفت منه كواكب الداري وكيف لا وقد فاض عليه النور من فتح الباري.
وبالجملة فإنما أنا من لوامع أنوارهم مقتبس، ومن فواضل فضائلهم ملتمس وسميته إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري.
ثم أورد مقدمة تشتمل على وسائل المقاصد، فإنها جامعة لفصول خمسة ذكر أنها الأصول لقواعد هذا الشرح، وبيان محتوى هذه الفصول ما يأتي:
الفصل الأول:
في فضيلة أهل الحديث وشرفهم في القديم والحديث، ذكر فيه حديث النبي صلى الله عليه وسلم:"نضر الله امرأ سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه" أورده برواياته المختلفة، وأسانيده المتعددة، وتكلم عنه وأفاض فيه، وأضاف إليه كثيرًا من الأحاديث والآثار تأكيدًا لفضل أهل الحديث وشرفهم، وأنهم -إن شاء الله- الفرقة الناجية.
الفصل الثاني:
في ذكر أول من دون الحديث والسنن ومن تلاه في ذلك سالكًا أحسن السنن، بين فيه اعتماد الأولين من الصحابة والتابعين وأتباعهم على الحفظ والضبط في القلوب والخواطر، غير ملتفتين إلى ما يكتبون، ولا معولين على ما يسطرونه، وذلك لسرعة حفظهم، وسيلان أذهانهم، فلما انتشر الإسلام، وتفرقت الصحابة، وكثرت الفتوحات فمات معظمهم، وتفرق تبعًا لذلك أتباعهم وقل الضبط احتاج العلماء إلى تدوين الحديث وتقييده بالكتابة، وكان أول من أمر بذلك عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه خوف اندراسه، فإنه -كما ورد في الموطأ- كتب إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن انظر إلى ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أو سننه فاكتبه، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء، وأنه كتب إلى أهل الآفاق: انظروا إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجمعوه، وأورد أن ابن حجر قال في مقدمة كتابه الفتح: أول من جمع ذلك الربيع بن صبيح وسعيد بن أبي عروبة وغيرهما، وكانوا يصنفون كل باب على حدة إلى أن انتهى الأمر إلى كبار الطبقة الثالثة، فصنف الإمام مالك بن أنس موطأه بالمدينة وصنف كل من الثوري والأوزاعي وعبد الملك بن جريج وحماد بن سلمة بن دينار تصنيفًا وتلاهم كثير من الأئمة، كل بما سنح له، وانتهى علمه إليه.