للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ففي شرحه لحديث "ابن آدم ١ عندك ما يكفيك وأنت تطلب ما يطغيك، ابن آدم لا بقليل تقنع ولا بكثير تشبع. ابن آدم، إذا أصبحت معافى في جسدك، آمنًا في سربك، عندك قوت يومك، فعلى الدنيا العفاء" "عدهب" عن ابن عمر "صح"، أورد المؤلف معنى "ما يكفيك" بأنه ما يسد حاجتك، ومعنى "وأنت تطلب ما يطغيك" أي تحاول أخذ ما يحملك على الظلم ومجاوزة الحدود الشرعية، ثم استشهد بالآية الكريمة: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى، أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى} ثم قال: فإذا كان عندك ما يكفيك حالا فأشكر نعمة ربك ولا تطلب زيادة تطغيك "ابن آدم لا بقليل تقنع" أي ترضى لفقر نفسك إلى الزيادة، والقناعة: الرضا بما قسم، وتطلق على الاكتفاء بقدر الضرورة، وهو معنى قولهم الرضا باليسير، ولعل المراد هنا بقوله: "تقنع" لا بقيد القلة وإلا لكفى أن يقول لا تقنع، ونكتة قصر القناعة على الرضا والنص على لفظ القلة معه رعاية الطباق بين القلة والكثرة المذكورة بقوله: "ولا من كثير تشبع" وهو من أنواع البديع المستحسنة، والباء في "بقليل" للمصاحبة، ومن في "من كثير" بمعنى الباء، ثم لما نعى عليه حاله، وذم إليه خصاله حثه على الزهادة، وبين له أن الكفاف مع الصحة والأمن محصل للغرض وزيادة، فقال له: "ابن آدم، إذا أصبحت" أي دخلت في الصباح "معافى" أي سالمًا من الأسقام والآثام، ومن قصره على الأول فقد قصر، والعافية والسلامة ودفع البلاء والمكروه "في جسدك" بدنك. قال الراغب: والجسد كالجسم لكنه أخص فلا يقال الجسد لغير الإنسان، أو الجسد يقال لما له لون والجسم لما لا يبين له لون كالماء والهواء "آمنًا" بالمد وكسر الميم "في سربك" -بكسر فسكون- نفسك، أو -بفتح وسكون- مذهبك ومسلكك، أو -بفتحتين- بيتك "عندك قوت يومك" ما يقوم بكفايتك في يومك وليلتك، وخص اليوم لأنه يستتبعها، أو لأن الليل غير محل للاقتياب. قال في الصحاح: القوت ما يقوم به البدن، وفي المفردات ما يمسك الرمق. "فعلى الدنيا العفاء" بفتح المهملة والفاء كسماء الهلاك والدروس وذهاب الأثر. قال الزمخشري ومنه قولهم: عليه العفاء إذا دعا عليه ليعفو أثره، والمعنى إذا كنت كذلك فقد جمع الله لك ما تحتاجه من الدنيا، فدع عنك ما عداه، واشتغل بما يقربك إلى الله. قال الغزالي: ومهما تأملت الناس كلهم وجدتهم يشكون ويتألمون من أمور وراء هذه الثلاث مع أنه وبال عليهم، ولا يشكرون نعمة الله فيها. ومر سليمان عليه السلام على بلبل بشجرة يحرك رأسه ويميل ذنبه فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا: الله ونبيه أعلم: قال: يقول أكلت نصف ثمرة فعلى الدنيا العفاء. وصاحت فاخيه فأخبر أنها تقول: ليت ذا الخلق لم يخلقوا، وقال صالح بن جناح لابنه: إذا مر بك يوم وليلة وقد سلم فيهما دينك ومالك وبدنك وعيالك، فأكثر الشكر لله، فكم من مسلوب دينه، ومنزوع ملكه، ومهتوك ستره في ذلك اليوم وأنت في عافية، ومن هنا نشأ زهد الزاهدين فاستراحت قلوبهم بالزهد، وانكفوا بالورع عن الكد، وتفرغت قلوبهم وأعمالهم لبذل الجد في سبيل الحمد، وميز القريب من البعيد، والشقي من السعيد، والسادة من العبيد، وهذا هو المهيع.


١ فيض القدير: ج١ ص٨٦.

<<  <   >  >>