ثم ما لبث أن منع عن هذه القلة القليلة من الجنود رواتبها، وإقطاعاتها، حتى أصبح الجنود يستجدون في الأسواق وعلى أبواب المساجد، ثم كتب إلى ملك التتار يطمعه في أخذ البلاد، ويطلعه على ما وصل إليه الحال في دولة الإسلام من الضعف، وما انتهت إليه جيوشها من المذلة، وزين له انتهاز الفرصة وتعجيل الوثوب، فإن البلاد الآن لقمة سائغة عنها في أي وقت مضى.
امتلأ ابن العلقمي حقدًا على السنة، فأراد إزالتها وأهلها من طريقه، وإبادة مفتيها وعلمائها والمتمسكين بها، ثم إظهار البدعة والرفض، وإقامة خليفة فاطمي يحكم على هواه، فكان عاقبة أمره أن خذله الله بعد أن باء بإثم من قتل من الرجال والنساء والشيوخ والأطفال.
نزل التتار على حدود بغداد مقدمة لملكهم هولاكو بن تولى بن جنكيز خان في ذي الحجة عام خمس وخمسين وستمائة وظلوا يتربصون.
وفي بداية عام ست وخمسين وستمائة نزلت جنود التتار بغداد، وأمدها صاحب الموصل بالمؤن والهدايا والتحف خوفًا منهم ومصانعة لهم، وأصبحت بغداد متحصنة بما لديها من آلات الحرب والممانعة، وتمكن التتار من الإحاطة بدار الخلافة، ورشقوها بالنبال من كل جانب، فأمر الخليفة بزيادة الاحتراز وإقامة الستائر عليها.
قدم هولاكو بكل جنوده إلى بغداد في نحو مائتي ألف مقاتل، وأحاطوا بالمدينة من ناحيتها الغربية والشرقية، وكانت جيوش الخلافة كلها يومئذ عشرة آلاف، وكانوا في غاية القلة ونهاية المذلة، وكان أول من خرج إلى هولاكو هو الوزير ابن العلقمي، خرج إليه بأهله وأصحابه وخدمه وحشمه، واجتمع به ثم عاد إلى الخليفة فأشار عليه بالخروج إلى هولاكو والمثول بين يديه لتقع المصالحة، على أن يكون نصف خراج العراق للتتار ونصفه للخليفة.
يقول صاحب الشذرات: إن ابن العلقمي أغرى الخليفة، بأن نقل إليه رغبة هولاكو في زواج ابنته بالأمير أبي بكر بن الخليفة، وأن تكون الطاعة له كما كان أجداد الخليفة مع الملوك السلاجفة، ثم يرحل هولاكو عن بغداد دون أن يصيبها بمكروه.
أطمأن الخليفة المعتصم إلى هذا القول، وخرج إلى هولاكو في أعيان الدولة وكبرائها وعلمائها واستدعى الوزير ابن العلقمي عددًا من رءوس الدولة وأعلامها المبرزين ليحضروا عقد الزواج الذي زعمه، وكانت عدة هؤلاء سبعمائة راكب من القضاة والفقهاء والصوفية، ورءوس الأمراء والدولة والأعيان، وعند منزل السلطان هولاكو خان حجب كل هذا العدد الكبير عن الخليفة، فأنزلوا عن مراكبهم فنهبت وقتلوا عن آخرههم، ولم يخلص مع الخليفة إلى السلطان إلا سبع عشرة نفسًا فاضطرب الخليفة من هول ما رأى من الإهانة والجبروت، ولم يستطع -على ما قيل- أن يجيب السلطان هولاكو على أسئلته الكثيرة، ثم عاد إلى بغداد تحت حراسة الوزير ابن العلقمي وخوجة نصير الدين الطوسي، ودخلوا دار الخلافة ونهبوا كل ما فيها من مال ومصاغ وذهب وحلي وجواهر