للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

في هذه الفتنة العمياء، والحروب العاصفة الهوجاء، في هذا البلاء الطاحن والوباء القاتل عصفت رياح المحنة بما ألف علماء المسلمين من كتب، وما دونوا من مؤلفات، وتحالفت عليها العاديات من كفر هولاكو وكيد ابن العلقمي، فأتت على أكثر ما أنتجه علماء المسلمين في العصور الأولى، وأصبحت الكتب الإسلامية وقد ألقتها جيوش التتار في النهر لتكون جسرًا يعبرون عليه إلى بلاد الشام، ولم يكن للناس يومذاك من هم سوى الفرار من وجه هؤلاء الطغاة طلبًا للنجاة، واللجوء إلى بلاد يحسون فيها بالدعة والسلام، والهدوء والأمان، وكانت مصر لذلك ملجأ لكثير من الناس، فإن أرضها لم تدنس بأقدام التتار، وإن ملكها المظفر قطز هو الذي كان على يده الخلاص من شرورهم، وإن شعبها الكريم المضياف قد فتح قلبه وبلده لاستقبال من حلت النكبة بهم أحسن استقبال، وإن أمراءها، وكبارها كانوا يحبون العلم ويقدرون العلماء، يقيمون لهم المدارس، ويجرون عليهم الأرزاق، ويشاركونهم في مدارسة العلم، حتى كان من هؤلاء الأمراء من يحفظ الحديث ويرويه ويصل إلى درجة الإمامة فيه، فيصبح شيخًا للحافظ ابن حجر شيخ الإسلام.

كان من الطبيعي -إذن- أن تكون هجرة العلماء إلى مصر، وأن يتحول النشاط العلمي إليها، وقد كان فيها علماء، ومحدثون وفقهاء، وقضاة ومفتون، وكانت هناك مدارس قد غصت بالشيوخ والتلاميذ من طلاب العلم في القاهرة وقوص والإسكندرية وغيرها من بلاد مصر، ومن يراجع كتاب الطالع السعيد لأسماء نجباء الصعيد لكمال الدين جعفر بن ثعلب الأدفوي نجده قد ترجم لنحو ستمائة من الأعلام في الصعيد وحدها، وفيهم الكثير جدًّا من العلماء الذين عاصروا هذه الحقيقة من الزمن.

وكان من الطبيعي أيضًا -وقد فقد المسلمون مكتبتهم الإسلامية في محنة التتار ببغداد- أن يركز العلماء في مصر على جمع العلوم الإسلامية من جديد، فنشطت حركة التأليف والتدوين، وكتب العلماء في كل فن، وأخذت علوم الحديث من ذلك بحظ وفير.

كانت علوم السنة من أهم ما يعنى به الأمراء والكبار ورجال الدولة، وكان علماء الحديث يبذلون أقصى الوسع في الجمع والتصنيف، والتدوين والتأليف، وسوف نرى فيما يأتي من هذا الكتاب بيانًا بما عرفناه من المؤلفات يشتمل على نحو خمسين، مؤلفًا لعلماء الحديث المصريين في خلال القرن التالي لسقوط بغداد، فإذا تجاوزنا هذا القرن إلى ما بعده وجدنا أكثر من مائتين من المؤلفات في الحديث وعلومه لمؤلفين أعلام من أمثال المنذري وابن دقيق العيد وعبد المؤمن بن خلف الدمياطي وابن سيد الناس اليعمري والقطب الحلبي وتقي الدين السبكي ومغلطاي بن قليج والعز بن جماعة وابن الملقن والبلقيني والعراقي ونور الدين الهيثمي وأبو زرعة المصري والبوصيري وابن حجر وبدر الدين العيني، وغير هؤلاء من الشيوخ ممن كانوا أئمة في الحديث وعلومه، وانتهت إليهم الرياسة في هذه الفنون.

<<  <   >  >>