وأخذ مصر منهم، وإنهم على هذا الحال وإذا بالأنباء تتواتر بتوجه التتار إلى بلاد الشام، وقد جاوزوا الفرات على جسور عملوها بقيادة ملكهم هولاكو خان، ووصلوا إلى حلب فحاصروها سبعة أيام بدأت باليوم الثاني من صفر، ثم افتتحوها بالأمان، ثم غدروا بأهليها وقتلوا كثيرًا منهم ونهبوا الأموال وسبوا النساء والأطفال، واستباحوا الحرمات، وجاسوا خلال الديار، وجرى على أهل حلب قريبًا مما جرى من قبل على أهل بغداد.
ثم أرسل صاحب حماة مفاتيحها إلى هولاكو، فأناب عليها رجلًا من العجم يدعى خسرو شاه، فخرب أسوارها كما خرب التتار أسوار حلب، ومن حلب أرسل هولاكو إلى دمشق جيشًا مع أمير من كبار رجاله يدعى كتبغانوين، فدخلها من غير مدافعة في أواخر صفر من نفس العام، وتلقاهم كبارها بالرحب والسعة، فكتب هولاكو أمانًا لأهل دمشق قرئ على ملأ الناس بالميدان الأخضر، ولم يمنعه ذلك أيضًا من تخريب أسوارها وهدم قلعتها كما فعل من قبل بحلب وحماة، كل ذلك وسلطان الشام الناصر بن العزيز مقيم بجيشه الكثيف في وطأة برزة متهيئ لمناجزة التتار إن هم قدموا عليه، وكان في جملة ممن معه الأمير بيبرس البندقداري في جماعة من البحرية، ولكن كلمة جيوش الناصر لم تكن واحدة، فقد عزم طائفة من رجال الجيش على خلع الناصر وسجنه، ومبايعة شقيقه الملك الظاهر علي، فلما علم الناصر بذلك هرب إلى القلعة، وتفرقت الجنود في الآفاق، وساق الأمير ركن الدين بيبرس البندقداري أصحابه إلى جهة غزة، فاستدعاه صاحب مصر الملك المظفر قطز إليه، وأقطعه قليوب وأنزله بدار الوزارة وعظم شأنه عنده.
في هذه الظروف السيئة التي أحاطت بالمسلمين وجيوشهم في كل مكان، وعندما علم الملك المظفر صاحب مصر بأن جيوش التتار قد فعلوا بالشام مثل ما فعلوا ببغداد، وأنهم نهبوا البلاد وقتلوا العباد، ووصلوا إلى غزة في طريقهم إلى مصر، عندما علم الملك المظفر بذلك بادرهم قبل أن يبادروه، وأقدم عليهم قبل أن يقدموا عليه، فخرج بجنده إلى الشام، واستيقظ له جيش المغول وعلى رأسه كتبغانوين وكان إذ ذاك في البقاع، فاستشار الأشرف صاحب حمص والمجير ابن الزكي، فأشاروا عليه بأن لا قبل له بالمظفر حتى يستمد هولاكو، فأبى إلا أن يسرع بمناجزته، فكان اجتماع الجيشين الإسلامي بقيادة قطز والمغولي بقيادة كتبغانوين في عين جالوت في يوم الجمعة الخامس والعشرين من رمضان سنة ثمان وخمسين وستمائة، ودارت رحى الحرب واقتتل الفريقان قتالًا عظيمًا، ودارت الدائرة على جيش المغول، وقتل أميرهم كتبغانوين وجماعة من بيته، وكتب الله النصر للإسلام والمسلمين، فطاردوا جيش المغول يقتلون من يدركونه منهم في كل موضع، ساروا خلفهم إلى حلب، ثم إلى دمشق، ودخل الملك المظفر قطز دمشق في أبهة عظيمة، وفرح الناس به فرحًا شديدًا، فإنه القائد المنتصر الذي خلصهم من التتار، عدوهم البغيض، وإنه الذي نصر الله على يديه الجيوش الإسلامية وأعزها بعد المذلة والهوان.