أقول: إن عبد الله بن عمرو حين كتب عن النبي صلى الله عليه وسلم هذه الصحيفة وغيرها مما رواه قد أمن على نفسه وعلى ما يكتب من تحقق علة النهي فيما فهمه الصحابة من الحديث الشريف.
لقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة قبيل مرضه الذي مات فيه أن يكتبوا، وذلك بعد أن كاد يتم نزول القرآن، وأمن عليه من اللبس بالحديث، وكان إذنه صلى الله عليه وسلم خاصًّا ببعض الصحابة، ولكنهم رضوان الله عليهم وجهوا اهتمامهم إلى ما كتب من القرآن بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فبادروا إلى جمعه في موضع واحد، وسموا ذلك المصحف واقتصروا عليه، ولم يفعلوا بالحديث مثل ما فعلوا بالقرآن، بل صرفوا همهم إلى نشره بالرواية؛ إما بنفس الألفاظ التي سمعوها من النبي صلى الله عليه وسلم إن كانت لا تزال باقية في أذهانهم، أو بما يؤدي معناها إن غابت عنهم مع التنبيه إليه أحيانًا، فإن المقصود بالحديث هو المعنى غالبًا، أما القرآن فمقصود معناه ومبناه، لتعلق الإعجاز بألفاظه، ولذلك استحق أن يسجل بالكتابة خشية أن تنسى الألفاظ مع بعد العهد وطول الزمان، وتقييد السنة مباح ما أمن الاختلاط.
إن القرآن وإن كان بدعًا في أسلوبه، فريدًا في نظمه، يمتاز على غيره بالإعجاز، إلا أن المسلمين في بداية عهدهم لم يكونوا قد مرنوا عليه، وقد كان النازل منه يسيرًا، ولم تكن ملكة التفرقة بينه وبين غيره قد تربت لديهم، فكان من الممكن أن يشتبه عندهم بغيره، ويختلط وحي يتلى بوحي لا يتلى، فكان لا بد من تمييز الوحي المتلو بالكتابة، حتى إذ مرن المسلمون على أسلوب القرآن، وطال عهدهم بسماعه وتلاوته في الصلاة وفي غير الصلاة أذن لبعضهم في كتابة الحديث لأمن اللبس.
ولعل من دواعي النهي عن كتابة الحديث ثم الإذن فيها ما كان من قلة العارفين بالكتابة حينئذاك، فاقتضت الحكمة قصرهم على كتابة القرآن، فلما توافر عددهم أذن صلوات الله وسلامه عليه في كتابة الحديث.
لكل هذه الدواعي أو لبعضها لم يتجه الصحابة إلى كتابة الحديث -كما سبق أن ذكرت- بل جعلوا أفئدتهم أوعية له، وألسنتهم أدوات لنقله وروايته، وكان علم الصحابة وكبار التابعين في الصدر الأول بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وائتمارهم بأمره وانتهاؤهم بنهيه أكبر من أن يسمح لمجموعهم بالنسيان بعد الحفظ، أو أن يندس بين المسلمين من يتقول على الرسول الكريم، وقد علموا ما أوعد الله به كاتم العلم، وما هدد به الرسول صلى الله عليه وسلم من تقول عليه بما لم يقل، فبادروا إلى تبليغ ما عرفوه من حديثه ابتغاء للرحمة وخروجًا من التبعة، وسرعان ما كان ينتشر بين الجماهير ما بلغوه، فإن نسي بعضهم بعضًا منه فرب مبلغ أوعى من سامع،