وما دام العهد قريبًا، وصوت النبي صلى الله عليه وسلم ما يزال صداه يرن في آذانهم، وصورته الكريمة ماثلة أمامهم، فإن من البعيد في ذلك الوقت أن يضيع شيء من السنة أو يخفى على جمهرة المسلمين.
كان الصحابة يتثبتون في رواية الحديث، فقد علموا أن من الحديث ما يحلل وما يحرم، وما يخطئ وما يصوب، وأن سبيل ذلك هو اليقين أو غلبة الظن، وكانت لهم نظرة فاحصة في الراوي والمروي وكان بعضهم لا يقبل من الحديث إلا ما عليه شاهد معضد، أو يمين حاسمة تميط لثام الشك عن وجه اليقين.
كان الخليفة الأول أبو بكر الصديق أو المتثبتين في رواية الحديث، وكان أول من سن للمحدثين التثبت في النقل، روى ابن شهاب عن قبيصة أن الجدة جاءت إلى أبي بكر تلتمس أو تورث فقال: ما أجد لك في كتاب الله شيئًا، ثم سأل الناس، فقام المغيرة فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيها السدس، فقال له: هل معك أحد؟ فشهد محمد بن مسلمة بذلك، فأنفذه لها أبو بكر رضي الله عنه.
وتبعه على التثبت في النقل عمر بن الخطاب، وربما كان يتوقف في خبر الواحد إذا ارتاب، روى الجربزي عن أبي نضرة عن أبي سعيد أن أبا موسى سلم على عمر من وراء الباب ثلاث مرات فلم يؤذن له، فرجع، فأرسل عمر في أثره فقال: لم رجعت؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سلم أحدكم ثلاثًا فلم يجب فليرجع ١ " قال: لتأتيني على ذلك ببينه أو لأفعلن بك، فجاء أبو موسى منتقعًا لونه ونحن جلوس فقلنا: ما شأنك؟ فأخبرنا وقال: فهل سمع أحد منكم؟ فقلنا: نعم كلنا سمعه، فأرسلوا معه رجلًا متهم حتى أتى عمر فأخبره.
وهذا علي رضي الله عنه يقول: كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا نفعني الله بما شاء منه، وإذا حدثني عنه محدث استحلفته فإن حلف لي صدقته، وأن أبا بكر حدثني وصدق أبو بكر.
ومن هنا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقلون من الرواية عنه خشية أن يدخلوا في الحديث ما ليس منه -سهوًا أو خطأ- فيتعرضوا لشيء من وعيد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أولئك الزبير وأبو عبيدة والعباس بن عبد المطلب، وكانوا ينكرون على من يكثر من الرواية، فالإكثار مظنة الخطأ، والخطأ في الدين عظيم الخطر، وقد التزم الصحابة وكبار التابعين بهذا المنهج في كل مكان نزلوه، وفي كل قطر حلوا فيه، وكانت خطتهم في مصر هي نفس ما ألزموا أنفسهم به في المدينة ومكة وسائر بلاد الإسلام: رواية قليلة متثبتة لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.