للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ثم قامت الدولة المملوكية في مصر: فانتعش الأزهر بعد ما أصابه من نكسة على يد الأيوبين وعادت إليه مكانته العلمية من جديد، ليكون حفيظًا على لغة القرآن وعلوم الشريعة، وكان الظاهر بيبرس أكثر سلاطين المماليك عناية بالأزهر، فأمر بإعادة خطبة الجمعة إليه، بعد أن ظلت معطلة منذ أيام صلاح الدين.

وعني الكثير من سلاطين المماليك بعمارة الجامع الأزهر ووقف الأموال عليه، ومنح الهبات لعلمائه وطلابه، وعادت إليه حلقات الدروس التي ازدهرت بعلوم الفقه والتفسير والحديث، وعمر بمجالس الوعظ، وجعل لكل قراءة من القراءات السبع مدرس خاص، ودرس فيه إلى جوار ذلك الفلسفة والعلوم الطبيعية، وتردد على حلقاته الأعيان وكبار رجال الدولة، وعين له إمام يصلي بالناس ويخطب فيهم خطبة الجمعة، كما عين له مشرف يتولى مختلف شئونه، وكان كبار رجال الدولة يتقربون إلى الله برعاية كافة نواحيه الإدارية والمالية والتعميرية، وبلغ عدد طلابه سبعمائة وخمسين من أبناء الريف المصري ومن الفرس والزنوج وشمالي إفريقية، وخصص رواق لإقامة كل من هذه الجنسيات.

وعادت للأزهر مكانته كمركز لأعمال الدولة في عهد المماليك: ففيه كانت تتلى المنشورات والقوانين، وشغل علماؤه وظائف كبرى في ذلك العهد ومن بينها القضاء والإفتاء، كما حملوا مسئولياتهم كاملة في الهداية والتوجيه، وكان لهم أكبر الأثر في توجيه السياسة العليا في البلاد.

وبذلك برزت مكانة الأزهر في العصر المملوكي، فقد كان مسجدًا للعبادة، وجامعة عليا للدراسات الإسلامية والعربية، ومركزا لأعمال الدولة الرسمية، كما كان مثابة للناس وأمنًا، تلتمس فيه الهداية، ويفزع إليه المظلوم، ويأوي إليه الفقراء والحجاج، والمتصوفة وطلاب العلم.

ومنذ ذلك الحين وحتى وقتنا هذا والأزهر حارس على الدين والعلم، يحمل لواء الحق إلى الناس في كل أقطار الأرض، وينشر دعوة الإسلام على أساس من الكتاب والسنة، لم ينحرف ولم يزغ، لم يدع إلى باطل، ولم يقصر في الدعوة إلى الحق، يفتح أبوابه للدارسين من كافة أنحاء الدنيا، يتلقاهم حفيًّا بهم حريصًا على تثقيفهم، يتزودون بين جنباته من علوم الدين واللغة والمنطق والفلسفة والكلام والرياضيات، كما يتعلمون غيرهما من الثقافات الإنسانية، ويفيدون من شيوخه ما أفاء الله عليهم من علوم، ثم يصدرون عنه وقد تزودوا بحصيلة يفيد منها طالبو الدين والدنيا معا، وينتفع بها العامة والعلماء على حد سواء.

ذاع صيت الأزهر وعظم خطره، واهتم به على مر الأيام ملوك الدنيا وزعماء العالم، وتعلقت به آمال المسلمين في شتى الأنحاء، وأحبوا مصر من أجل الأزهر، فأصبحت به قبلة السائحين، ومنار الحائرين، ومهوى أفئدة الملايين من المسلمين.

<<  <   >  >>