للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقد نقل ابن القيم عن الشافعي قوله: "وقد أثنى الله تبارك وتعالى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن والتوراة والإنجيل، وسبق لهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفضل، ما ليس لأحد بعدهم، فرحمهم الله وهنأههم بما آتاهم من ذلك ببلوغ منازل الصديقين والشهداء والصاحلين أدوا إلينا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم عاما وخاصا، وعزما وإرشادا، وعرفوا من سننه ما عرفنا وجهلنا، وهم فوقنا في كل علم واجتهاد، وروع وعقل، وأمر استدرك به علم، واستنبط به، وآراؤهم لنا أحمد وأولى بنا من رأينا عند أنفسنا".

تلك هي منزلة الصحابة عند الشافعي فيما يروي عنهم من رأي، وقد كان أحدهم يري الرأي فينزل القرآن بموافقته، كما رأي عمر في أسارى بدر أن تضرب أعناقهم؛ فنزل القرآن بموافقته، ورأي أن يتخذ من مقام إبراهيم مصلى، فنزل القرآن بمواقته، وقال لنساء النبي صلى الله عليه وسلم لما اجتمعن في الغيرة علين: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَات} ١. فنزل القرآن بموافقته. ولما توفى عبد الله بن أبي قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، فقام عمر فأخذ بثوبه، فقال: "يا رسول الله ... إنه منافق" فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عليه {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} ٢.

وعلى هذا ينتفي التعارض بين ما روى عن الصحابة من ذم للرأي، وما اجتهدوا فيه برأيهم؛ فالرأي الذي ذموه هو الرأي المجرد الذي لا دليل عليه؛ بل هو خرص وتخمين، على نحو ما ذكرنا من قبل، أما الرأي الذي هو بصيرة القلب، أو الرأي الذي يستند غلى استدلال واستنباط يفسر النصوص، ويبين درجة وجه الدلالة منها، فهذا أو ذاك هو ما أخذ به الصحابة، وهو الفهم الذي يختص الله سبحانه به من يشاء من عباده.


١ التحريم: ٥.
٢ التوبة: ٨٤.

<<  <   >  >>