في تفاصيل الوقائع وتلمس شواهدها الجزئية من أحداث التاريخ الإسلامي، أن الأمة الإسلامية قد مرت بفترات قوة وفترات ضعف، فكانت إبان القوة -المنبثقة من التزامها بعقيدتها وتعبئتها لقواها، وصلابة بنية مجتمعها- أمة الفتح المجيد، والانتصار المتلاحق، والمد المشرق والبناء الحضاري الفذ.. وكانت في حالات ضعفها الأمة التي يغزوها أعداؤها، وينتقصون من أطراف دولتها، ويتطاولون عليها، ويحتلون ديارها، ويستبيحون ذمارها، ويستبدون بأبنائها، وينالون منها في كيانها السياسي، ومصادر قوتها، وكنوزها وطاقاتها، بل يبلغون بحقدهم ووحشيتهم مبلغًا فظيعا في القتل وسفك الدماء وتخريب الديار، وتوقيض الأمصار، ودك الحصون والقلاع، ونهب الثروات المادية والحضارية، ولكنهم أبدًا لم يستطيعوا على الرغم من حملات العنف، وحروب التدمير، أن يذيبوا هذه الأمة الإسلامية في عقائدهم ومبادئهم ووجودهم المنحرف، فقد استعصت -حتى في فترات ضعفها- على الذوبان، بل لقد صنعت ما لم يكن بالحسبان، فامتصت -وهي المغلوبة- الغالبين الأقوياء، فذابوا فيها بدل أن تذوب فيهم، فاستطاعت -مثلاً- أن تحوّل المغول الغزاة على مر الأيام إلى مسلمين، واستطاعت أن تؤثر في الصليبيين تأثيرًا بالغًا بحيث يعترف المؤرخون الغربيون أن نهضة أوروبا إنما تعود في حقيقتها إلى ما أفاده الغربيون من الاتصال بالمسلمين في الأندلس وفي الحروب الصليبية، فقد نشر اتصال الغربيين بالمسلمين -خلال هذه الحروب- "قبسا من روح العلم والبحث والتفكير الحر، وكان أبرز العوامل التي جعلت رجال الكنيسة يحاولون استخدام الفلسفة في "العصر المدرسي" للدين، لعلهم يجدون فيها لعقيدتهم سندًا من المنطق، ودعامة من العقل"١
١ انظر: "المسألة الاجتماعية بين الإسلام والنظم البشرية" للمؤلف ص٩٢.