٣- ولعل مما يخفِّفُ من قيمة الفواصل بين مدلولي هاتين الكلمتين: الحضارة والثقافة، محاولة تقصي أصل المعنى اللغوي لهما.
وقد أسلفنا القول في أصل معنى "الثقافة" من الناحية اللغوية في العربية وغيرها من اللغات الأجنبية، ثم ألمحنا إلى مدلولها في الدراسات الاجتماعية، وعلاقتها بالمثل الإنسانية للمجتمع.
أما أصل المعنى اللغوي للحضارة -بفتح الحاء وكسرها- فهي: الإقامة في الحضر، من مدن وقرى، بخلاف "البداوة" التي هي الإقامة المتنقلة في البوادي. وعلى هذا فأصل دلالتها على الاستقرار الناشئ عن زراعة الأرض.
وإذا كانت الزراعة هي سبيل أبناء المجتمع للتطور والتقدم في اكتساب العيش، ثم بناء المدن وتحصيل المعرفة، ثم هي سبب الانتظام الداخلي والتعامل الخارجي؛ فإن أصول المدنية الإنسانية بجوانبها المادية والمعنوية تكون إنما نشأت -كما يرى بعض الباحثين- مع حاجة الإنسان إلى تحصيل قُوتِهِ من الأرض التي سخرها الله له..
بهذا يكون معنى الحضارة -من حيث الأصل- أوسع دلالة من الثقافة؛ لأنه إذا كانت الثقافة هي نتاج المعرفة وتنمية العقول؛ فمن الواضح أنها لم تنشأ إلا بعد الاستقرار الذي تمثل في سكنى المدن والأمصار.
وفي هذا يقول ابن خلدون:
"إن العلوم إنما تكثر حيث يكثر العمران وتعظم الحضارة، والسبب في ذلك أن تعليم العلم -كما قدمناه- من جملة الصنائع، وقد كنا قدمنا أن الصنائع إنما تكثر في الأمصار، وعلى نسبة عمرانها في الكثرة والقلة والحضارة والترف تكون نسبة الصنائع في الجودة والكثرة؛ لأنه أمر زائد على المعاش؛ فمتى فضلت أعمال أهل العمران عن معاشهم؛ انصرفت إلى ما وراء المعاش من التصرف في خاصية الإنسان، وهي العلوم والصنائع، ومن تشوف بفطرته إلى