لنشرها، هو نقلها من حيز النظر المجرد إلى الواقع البشري الحي، ووصل حياة الناس بها، بحيث تكون مصدر فكرهم وشعورهم، وطابع سلوكهم، وسمة حياتهم العملية. ومن هنا يخرج مدلول الثقافة عن قصد المعرفة المجردة إلى المعرفة الهادفة. أو بتعبير آخر: عن المعرفة الساكنة التي لا تتجاوز حدود العمل الذهني، إلى المعرفة المحركة التي تحدث تفاعلًا موجهًا واضح التأثير مع تطلعات الفرد والجماعة.
ولعل خير ما يجلي هذه الفكرة؛ ما ذكره "أحمد بن محمد بن عبد ربه الأندلسي" في وصف العلم والأدب فقال: "فإنهما القطبان اللذان عليهما مدار الدين والدنيا، وفرق ما بين الإنسان وسائر الحيوان، وما بين الطبيعة الملكية، والطبيعة البهيمية، وهما مادة العقل وسراج البدن، ونور القلب وعماد الروح، وقد جعل الله بلطيف قدرته، وعظيم سلطانه، بعض الأشياء عمدًا لبعض ومتولدًا من بعض؛ فإجالة الوهم فيما تدركه الحواس تبعث خواطر الذكر، وخواطر الذكر تنبه روية الفكر، وروية الفكر تثير مكامن الإرادة، والإرادة تحكم أسباب العمل؛ فكل شيء يقوم في العقل ويمثل في الوهم يكون ذكرًا، ثم فكرًا، ثم إرادة، ثم عملًا"١.
٣- وإذا كان لا بد لهذه المفاهيم الأساسية من مرتكزات منطقية وأصول علمية؛ فإن الأمم التي تعوزها هذه المرتكزات والأصول لمفاهيمها؛ تحاول أن تعوض هذا النقص الخطير باتخاذ أسلوب الافتراض والتخمين. وقد تلجأ أحيانًا إلى ضروب من المغالطات الخفية، والمرتكزات الوهمية حين تنعدم لديها الحقائق الأصلية، وتفقد قواعد اليقين العلمي الراسخ، وتحاول أن تحيط مفاهيمها الناقصة التي لا تستند إلى أدلة مقبولة بهالةٍ من التمجيد والتزيين تلفت إليها الأنظار؛ فترمقها مبهورة بظواهرها.