للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لِمُجَرَّدِ هَذِهِ الْفَائِدَةِ وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ قَائِمًا مَقَامَ الْكِتَابِ وَالشُّهُودِ، فَهُوَ شَاهِدٌ بِقَدْرِ الْحَقِّ، وَلَيْسَ فِي الْعُرْفِ أَنْ يَرْهَنَ الرَّجُلُ مَا يُسَاوِي أَلْفَ دِينَارٍ عَلَى دِرْهَمٍ.

وَمَنْ يَقُولُ: " الْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ " يُقْبَلُ قَوْلُهُ: إنَّهُ رَهَنَهُ عَلَى ثَمَنِ دِرْهَمٍ أَوْ أَقَلَّ، وَهَذَا مِمَّا يَشْهَدُ الْعُرْفُ بِبُطْلَانِهِ. وَاَلَّذِينَ جَعَلُوا الْقَوْلَ قَوْلَ الرَّاهِنِ: أَلْزَمُوا مُنَازَعِيهِمْ بِأَنَّهُمَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي أَصْلِ الرَّهْنِ لَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَالِكِ، فَكَذَلِكَ فِي قَدْرِ الدَّيْنِ.

وَفَرَّقَ الْآخَرُونَ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ بِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ تَعَلُّقُ الْحَقِّ بِهِ فِي مَسْأَلَةِ النِّزَاعِ، وَالرَّهْنُ شَاهِدُ الْمُرْتَهِنِ، فَمَعَهُ مَا يُصَدِّقُهُ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْإِلْزَامِ.

[فَصَلِّ الطَّرِيقُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ فِي الْحُكْمِ بالعلامة الظَّاهِرَة]

٩٢ - (فَصْلٌ)

الطَّرِيقُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ الْعَلَامَاتُ الظَّاهِرَةُ وَقَدْ تَقَدَّمَتْ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ، نَزِيدُ هَاهُنَا: أَنَّ أَصْحَابَنَا وَغَيْرَهُمْ فَرَّقُوا بَيْنَ الرِّكَازِ وَاللُّقَطَةِ بِالْعَلَامَاتِ.

فَقَالُوا: الرِّكَازُ مَا دَفَنَتْهُ الْجَاهِلِيَّةُ، وَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ بِرُؤْيَةِ عَلَامَاتِهِمْ عَلَيْهِ، كَأَسْمَاءِ مُلُوكِهِمْ وَصُوَرِهِمْ وَصُلُبِهِمْ، فَأَمَّا مَا عَلَيْهِ عَلَامَاتُ الْمُسْلِمِينَ - كَأَسْمَائِهِمْ أَوْ الْقُرْآنِ وَنَحْوَهُ - فَهُوَ لُقَطَةٌ، لِأَنَّهُ مِلْكُ مُسْلِمٍ لَمْ يَعْلَمْ زَوَالَهُ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ عَلَى بَعْضِهِ عَلَامَةُ الْإِسْلَامِ، وَعَلَى بَعْضِهِ عَلَامَةُ الْكُفَّارِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ: أَنَّهُ صَارَ لِمُسْلِمٍ فَدَفَنَهُ، وَمَا لَا عَلَامَةَ عَلَيْهِ فَهُوَ لُقَطَةٌ، تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْإِسْلَامِ. وَمِنْهَا: أَنَّ اللَّقِيطَ لَوْ ادَّعَاهُ اثْنَانِ، وَوَصَفَ أَحَدُهُمَا عَلَامَةً مَسْتُورَةً فِي جَسَدِهِ: قُدِّمَ فِي ذَلِكَ، وَحُكِمَ لَهُ وَهَذَا مَذْهَبُ أَحْمَدَ وَأَبِي حَنِيفَةَ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يَحْكُمُ بِذَلِكَ، كَمَا لَوْ ادَّعَيَا عَيْنًا سِوَاهُ، وَوَصَفَ أَحَدُهُمَا فِيهَا عَلَامَاتٍ خَفِيَّةً.

وَالْمُرَجِّحُونَ لَهُ بِذَلِكَ فَرَّقُوا بَيْنَهُمَا بِأَنَّ ذَلِكَ نَوْعُ الْتِقَاطٍ، فَقُدِّمَ بِالصِّفَةِ، كَلُقَطَةِ الْمَالِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهَا النَّصُّ الصَّحِيحُ الصَّرِيحُ، وَقِيَاسُ اللَّقِيطِ عَلَى لُقَطَةِ الْمَالِ أَوْلَى مِنْ قِيَاسِهِ عَلَى دَعْوَى غَيْرِهِ مِنْ الْأَعْيَانِ، عَلَى أَنَّ فِي دَعْوَى الْعَيْنِ إذَا وَصَفَهَا أَحَدُهُمَا بِمَا يَدُلُّ ظَاهِرًا عَلَى صِدْقِهِ نَظَرَا. وَقِيَاسُ الْمَذْهَبِ فِي مَسْأَلَةِ تَدَاعِي الزَّوْجَيْنِ: تَرْجِيحُ الْوَاصِفِ إذًا.

وَقَدْ جَرَى لَنَا نَظِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ سَوَاءٌ، وَهُوَ أَنَّ رَجُلَيْنِ تَدَاعَيَا صُرَّةً فِيهَا دَرَاهِمُ، فَسَأَلَ وَلِيُّ الْأَمْرِ أَحَدَهُمَا عَنْ صِفَتِهَا؟ فَوَصَفَهَا بِصِفَاتٍ خَفِيَّةٍ، فَسَأَلَ الْآخَرَ؟ فَوَصَفَهَا بِصِفَاتٍ أُخْرَى، فَلَمَّا اُعْتُبِرَتْ طَابَقَتْ صِفَاتِ الْأَوَّلِ لَهَا، وَظَهَرَ كَذِبُ الْآخَرِ، فَعَلِمَ وَلِيُّ الْأَمْرِ وَالْحَاضِرُونَ صِدْقَهُ فِي دَعْوَاهُ وَكِذْبَ صَاحِبِهِ، فَدَفَعَهَا إلَى الصَّادِقِ.

<<  <   >  >>